والكرب إذا اشتد و أيس العبد من جميع المخلوقين، وتعلق قلبه بالله وحده، وهذا هو حقيقة التوكل على الله، وهو من أعظم ما تطلب به الحوائج، ومن توكل على ربه كفاه ([355])،] وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه [([356]).
فالفرج يحصل سريعاً مع الكرب، فلا دوام للكرب، وحينئذ فيحسن لمن نزل به كرب أن يكون صابراً محتسباً، راجياً سرعة الفرج مما نزل به، حسن الظن بمولاه، في جميع أموره، فالله I أرحم به من كل راحم، حتى أمه وأبيه؛ إذ هو I أرحم الراحمين.
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى:] وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [([357])، وقوله تعالى:] اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ [([358])، فهؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر كانوا قانطين من نزوله إليهم قبل ذلك، فلما جاءهم جاءهم على كرب وشدة وفاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً، فكان فرجاً وتيسيراً.
وقد قصّ الله تعالى في كتابه قصصاً كثيرة تتضمن وقوع الفرج بعد الكرب والشدة، كقصة نجاة نوح عليه الصلاة والسلام، ومن معه، في الفلك من الكرب العظيم، مع إغراق سائر أهل الأرض، وقصة نجاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النار التي ألقاه المشركون فيها، وأنه سبحانه جعلها عليه برداً وسلاماً، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع ولده الذي أمر بذبحه، ثم فداه الله بذبح عظيم، وقصة موسى عليه الصلاة والسلام مع أمه لما ألقته في اليم حتى التقطه آل فرعون، وقصته مع فرعون لما نجى الله موسى في البحر وأغرق عدوه، وقصص أيوب ويونس ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، وقصص محمد e في نصره على أعدائه ونجاته منهم في عدة مواطن، مثل قصته في الغار، ويوم بدر، ويوم أحد، ويوم حنين، وكذا قصة عائشة في حديث الإفك، والبراءة منه، وقصة الثلاثة الذين خلفوا، وغير ذلك من قصص القرآن الكريم وأخباره ([359]).
وفي السنّة أخبار كثيرة من تفريج الكرب عند اشتدادها، كقصة الثلاثة الذين دخلوا الغار فانطبقت عليهم الصخرة، فدعوا الله بأعمالهم الصالحة ففرج عنهم ([360])، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وسارة مع الجبار الذي طلبها من إبراهيم عليه الصلاة والسلام فرد الله كيد الظالم ([361])، وعندما اشتكى رجل إلى النبي e، وهو قائم يخطب يوم الجمعة، احتباس المطر وجهد الناس، فرفع رسول الله e يديه فاستسقى لهم، فنشأ السحاب ومطروا إلى الجمعة الأخرى، حتى قاموا إليه e وطلبوا منه أن يستصحي لهم، ففعل فأقلعت السماء ([362])، إلى غير ذلك من القصص و الأخبار الثابتة.
والعبد معرض للمصائب والفتن، فقد تشتد عليه الأمور، وتضيق عليه الدنيا، ويتمكن منه الهم والحزن؛ فإذا صبر واحتسب، ولم ييأس من نصر الله وفرجه، والتجأ إلى مولاه بالدعاء والتضرع، في جميع أحواله، جاءه النصر والتأييد والفرج.
يروى عن الشافعي (ت 204هـ) قوله:
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا من راقب الله في الأمور نجا
من صدق الله لم ينله أذى ومن رجاه يكون حيث رجا ([363])
المبحث الثاني عشر
في قوله e :( وإن مع العسر يسراً)
أي أن كل عسر بعده يسر، بل إن العسر محفوف بيسرين، يُسر سابق ويسر لاحق، قال تعالى:] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [([364])
يقول السعدي: ((وقوله:] فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [: بشارة عظيمة أنه كلما وجد عسر وصعوبة؛ فإن اليسر يقاربه ويصاحبه … وتعريف (العسر) في الآيتين يدل على أنه واحد، وتنكير (اليسر) يدل على تكراره، فلن يغلب عسر يسرين.
وفي تعريفه بالألف واللام، الدال على الاستغراق والعموم دلالة على أن كل عسر، وإن بلغ من الصعوبة ما بلغ، فإنه في آخره اليسر ملازم له)) ([365]).
¥