والّذي يوحي بمخالفتهم لهم في التأصيل هو الجمود على القاعدة والتحاكم والإلزام بها وهو خطأ في التطبيق، وإلاّ فكما هو معروف فإنّ القواعد يُلزم بها القاصر وغير المتمرس، أمّا المتمرس ومن تكوّنت له ملكة النقد والذّوق العلمي فديدنه: لكل قاعدة استثناء، والاستثناء الّذي يكون لمعنى وقرينة راجحة لا يُعارض به الأصل.
وفي ظني أنّ هذا هو الخطأ الّذي يقع فيه من يفصل ويفرق بين المنهجين.
خذ مثلاً زيادة الثقة الّتي مثلت بها (مع أني كنت أطمع بتوسع أكثر، لكن فيما ذكرت كفاية إن شاء الله) فإنّ الناظر إلى تعامل المتقدمين مع زيادة الثقة من خلال العمل بالقرائن المحتفة في تضعيف زيادة الثقة يظن أنّ ذلك يعارض وضع المتأخرين لقاعدة (زيادة الثقة مقبولة) والأمر ليس كذلك في ظني.
لأنّ المتأخّرين يضعفون زيادة الثقة إذا قامت القرينة على ضعفها وخطأ الثقة، هذ من جهة.
ومن جهة أخرى فإنّ المتقدم في تضعيفه لهذه الزيادة يعتبر نفسه خارجاً عن القاعدة لمعنى، بدليل أنّه في زيادة الثقة لا يبحث عن قرينة لصحّة الزيادة وإنّما يبحث عن قرينة تضمن له أنّ الثقة لم يخطىء في زيادته هذه، فإذا لم يجد ما يدل على خطئه مشى على الأصل وهو قبول الزيادة، ولهذا يعلل الحفاظ المتقدمين قبول زيادة الثقة بكونه ثقة (هذا إذا قبلها) وإلاّ بيّن خطأها، وأنا مع قلة نظري واطلاعي لم يمر علي أنّ حافظاً أو إماماً توقف في زيادة ثقة (فقط لكونها زيادة) وهذا يعني أنّ المتقدّم كان لديه أصل لكنه لا يحكم به إلاّ إذا عرف أنّ هذا الأصل سالم من علة قادحة.
تماماً كشروط صحّة الحديث، فإنّ أصحاب القواعد وضعوا شروطاً لصحة الحديث: ومع هذا فالمتمرس لا يكفيه توفر الشروط حتى يبحث وينقب ويجمع الطرق ليتأكّد من سلامة الأصل.
وهذا لا يعني بطبيعة الحال أنّه يتوقف في صحة الحديث إلاّ بقرينة تدل على صحته، وعلى ذلك قس مسألة زيادة الثقة.
فإذا جاء المتأخّر وقال (زيادة الثقة مقبولة) فهو متفق مع المتقدم في هذا، ويبقى أنّ التقعيد والتّأصيل شأنه في علم الحديث شأنه في كل العلوم مدعاة للتساهل والركون لطرد القاعدة دون العناء في الجمع والمقارنة، انظر مثلاً للفقه حين أصبح يدون في متون مختصرات، لاشك أنّ قصد أصحابها في البدء كان حسناً بأن تكون تلك المتون مبادىء تنير الطريق للسالك يرتقي منها لدرجة التفقه والنظر والمقارنة بدليل أنّهم لم يكتفوا بها بل ألفوا في الخلاف داخل المذهب ثم في الخلاف العالي.
لكنّ ذلك للأسف جعل كثيراً من الناس يكتفي بحفظ المتن الفقهي ويقف عنده دون إكمال الطريق، مع أنّ تلك المتون في الحقيقة تلخيص لأقوال واجتهادات المتقدمين.
فطريق التصحيح ليس في إيهام التفريق بين المتقدم والمتأخر في المنهج النظري التأصيلي، وإنما في بيان المنهج التطبيقي العملي.
نعم أشاركك الرأي في كون التساهل المطرد المنتشر يشكل منهجاً عملياً لأنه سيؤدي إلى أحكام مغايرة لما وصل إليه المتقدمون لكن الشأن ليس في نفس الأمر وإنما في العنونة والاصطلاح.
ولا يُقال هنا إنّه لا مشاحة في الاصطلاح لأسباب قد يأتي ذكرها لاحقاً لكن يُقال هنا: إنّ ذلك يمكن أن يُقبل إذا لم يؤدي الاصطلاح إلى اللبس والإيهام.
هذا ما عندي وأرجو أن أكون قد بنيت كلامي على فهم صحيح والله تعالى أعلم وأحكم.
ـ[التلميذ]ــــــــ[16 - 12 - 02, 08:46 م]ـ
تقول بارك الله فيك:
(((لا يخفى عليك أنّ المتأخّرين الّذين أصّلوا وقعّدوا هذه القواعد إنّما قعّدوها من خلال نظرهم في كلام المتقدّمين من ائمّة الحديث وأخذوا من أقوالهم وأحكامهم على الروايات ونقدهم لها مجموعة من القواعد والأصول الّتي يرجع إليها طالب الحديث كأصل ينطلق منهه في تصوّره لمبادىء النّقد، وهذه الأصول في ظني متّفقة من حيث النّظرية مع منهج المتقدّمين وإلاّ كان ذلك تهمة لهم.)))
وأقول:
¥