وكلامك الّذي جعلت منه دليلاً على العجز عن تطبيق قاعدة الحديث الحسن يلزمك حتى في الصحيح: فإنّك إذا قلت في الصحيح: هو من كان راويه ثقة حافظاً: فإن ذلك لا يمكن إلاّ بدراسة الجوانب الأخرى الّتي أشرت إليها إذ يمكن أن يكون ذا علة مانعة من الحكم بصحته، وهذا لازم في أيّ ضابط أو قاعدة تُذكر في أصول الحديث: ولو قلنا بمثل هذا القول فهذا يعني استحالة وضع ضوابط أو أصول أو قواعد لهذا الفن بل ولكل فن.
قلت بارك الله فيك: (مثال آخر: النظر في المتابعات والشواهد، تجد أن هناك حداً درج عليه المتأخرون بلا نكير بينهم، وهو أن الطريق الضعيف القابل للتقوي لابد أن يعضده ما كان من درجته في الضعف أو فوقه، ولا يعضده ما كان دونه، وهذا كلام نظري جميل، لكن عند التطبيق يطول عجبك .. ) الخ.
أقول: لاعجب إذا فهمناه كالآتي:
أنّهم يقصدون من هذا النّظر في الطريق الوحد لا الحديث بتمامه: فإذا جاء الحديث من طريقين: أحدهما ضعيف والآخر أضعف منه، فإنّ الطريق الأضعف يستفيد من الطريق الّذي هو أقوى منه، لكن الطريق الأقوى لا يستفيد قوة مما هو أضعف منه.
أما بالنظر للحديث جملة فإن مجيئه من طريقين كلاهما صالح في المتابعات يرقيه إلى الحسن لغيره.
وليس معنى كلامهم أنّك حين تجد طريقين لحديث ما تجعلهما أمامك ثم تفكر بأيهما تبدأ كما صوّرت.
بل مرادهم أنّ الباحث قد يقف على طريق لحديث ثم بعد ذلك يقف على الطريق الأخرى فيعمل بما ذكروه.
الزاوية الثانية: أنهم يريدون بكلامهم هذا ما انحط عنه برتبة كاملة ليس في تفاوت يسير كما مثلت رعاك الله.
أي أنّ الراوي إذا كان ضعيفاً فإنّه يرتقي بضعيف مثله أو بمن هو أفضل حالاً منه كراوي الحسن لذاته أو الثقة.
وعلى هذا الفهم فإذا بدأت بالطريق التي فيه الضعيف ثم وجدت طريقاً فيها من لا يصلح للاعتضاد فإن هذا لا يفيد.
وإذا بدأت فوجدت طريقاً فيها من لا يصلح للاعتبار ثم وجدت طريقاً فيها من حديثه ضعيف فالحكم على الحديث به والأوّل ساقط لا قيمة له.
وإذا كان هذا مرادهم زال الإشكال ولله الحمد.
قلت حفظك الله: (من خلال ما تكون عندي من تصور لمنهاج المتقدمين لا يمكنني أن أسلِّم لك أنهم يستهدفون قبول زيادة الثقة، وإنما غاية أمرهم أنهم يريدون أن يتبينوا من خلوها من العِلل والمخالفات التي تضعفها، هذا لا يمكن أن أقول به أبداً)
أقول: بغض النظر عن التعبير الذييُستخدم لدلالة فإن هذا هو واقع الحال، وهو أن الناقد إذا لم يجد ما يقدح في زيادة الثقة رجع إلى أصل وإلا لكان مرده للتوقف لا للقبول، وهذا سلّم به الدكتور المليباري في بحث له: وسمى هذا رجوعاً إلى الأصل.
قلت حفظك الله: (أن حالهم هذه التي صورتها تجعلهم يسلكون مع زيادة الثقة ما يسلكونه مع الحديث المستقل، وهو التثبت من خلوه من جميع العِلل ليمكن قبوله، وهذا التصور هو قطب الرحى في تصوّر المتأخرين (لأنهم يعللون قبول زيادته بقبول ما استقلَّ به من حديث عندهم) وهذا لا يشبه مسلك المتقدمين ولا يماثله).
أقول: أختلف معك: ففي كلا الحالين فالمتقدمون لديهم أصل يرجعون إليه في حال تحقق الشرط العدمي: أي وجود علة قادحة في صحة الزيادة أو في صحة الحديث المستقل.
ولا يغيب عن الذّهن هنا أنّ زيادة الثقة مثلاً هي أصلاً ضمن حديث مستقل، فالباحث من المتقدمين كان سيبحث ويجمع طرق الحديث متضمناً زياداته ليحكم بصحة الحديث إذا وجده خالياً من العلل، صحيح أنّ البحث والتدقيق مع الزيادة سيكون أكثر لأنّ مظنة نسبة الخطأ والوهم تزيد لكن العمل في الحالين واحد: والدليل كما قلت مراراً: أنّه في حالة عدم وجود علة قادحة أو قرينة مرجحة للزيادة فهم لا يتوقفون فيها بل يقبلونها إعمالاً للأصل: هذا واقعهم وإن كان غير ذلك فأرجو أن تضرب لنا المثال العملي على هذا حتى يتبين لي أكثر.
قلت حفظك الله: (2/ أنهم كثيرا ما يضعفون الزيادة لكونها زيادة في هذا الموضع مع أن راويها لا ينزل عن درجة الثقة في الجملة)
أقول: هنا الأمر يحتاج إلى تمثيل: إذا كنت تقصد المتقدمين: وبعض الكتب تنقل عن قلة من أهل الحديث أنهم يردون الزيادة مطلقاً وهذا مذهب معروف لبعضهم وكذلك إذا قصدت المتأخرين فربما يكون منهم من يرد الزيادة مطلقاً
ولست أنكره من هؤلاء وأما من مذهبه التفصيل أو الاعتماد على القرائن فلم يمر علي رده للزيادة فقط لمجرد كونها زيادة: أرجو أن تمثل لي بمثال أيّدك الله.
قلت حفظك الله: (إذا سلمتُ لك تصويرك (المنضبط نظرياً) لتطابق منهج المتقدم مع منهج المتأخر تماماً، ولبطل كل ما مثلتُ به وأوردتُ عليه الأمثلة في الرد السابق)
أقول: الاستدلال على اختلاف المنهج باختلاف النتائج ليس سديداً على إطلاقه، وليس مخالفة المتأخر للمتقدم في النتيجة راجع في معظمه لاختلاف منهج بقدر ما هو اختلاف التطبيق.
والدليل على هذا: أنّ المتقدمين أنفسهم ولو كان منهجهم واحداًفقد يختلفون في الحكم، هذا من هجة.
ومن جهة أخرى: فإنك إذا سلمت أنّ تصويري منضبط نظرياً فهذا يلزم منه أن يكون منضبطاً واقعاً أيضاً: وأذا اختلف فهذا دليل على الاختلال في التطبيق لا في المنهج والتصور.
قلت حفظك الله: (وهذا ما يخالف واقعهم، فأنا لا أحكم من خلال تصوراتي الشخصية التي هي في ذهني فحسب، بل إني أحكم من واقع تصرفاتهم وأحكامهم، وما تفضلتَ به يخالف واقعهم تماماً، هذا أصدق وأوجز عبارة يمكنني التصريح بها في هذا الموضع.)
أقول: ولهذا أحببت أن أحاور من له ممارسة للواقع فأرجو أن تبين لي هذا الواقع حساً.
قلت حفظك الله: (قد أسافر في الغد - إن شاء الله تعالى - فإن حصل ذلك، فسأنقطع عن الموضوع أياماً قد لا أتمكن من الوصول للشبكة، وأسأل الله تعالى أن يعيدني مغفورا لي ولجميع إخواني)
أقول: حفظك الله في حلك وترحالك وأعادك الله إلى أهلك سالماً غانماً مغفوراً لك ولجميع إخوانك والمسلمين.
¥