" ... والغالب على من يحفظ ويحدث من حفظه أن يهم وليس من الإنصاف ترك حديث شيخ ثبت صحَّت عدالته بأوهام يهم في روايته، ولو سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك حديث الزهري وابن جريج والثوري وشعبة لأنهم أهل حفظ وإتقان وكانوا يحدثون من حفظهم، ولم يكونوا معصومين حتى لا يهموا في الروايات. بل الاحتياط والأولى في مثل هذا قبول ما يروي الثبت من الروايات وترك ما صحَّ أنه وهم فيه ما لم يفحش ذلك منه حتى يغلب صوابه، فإن كان كذلك استحق الترك حينئذٍ ".
أما القول: إذا حدث من حفظه جاء ببواطيل.
أقول: فأما الأباطيل فقد يكون الحمل فيها على من فوقه، فقد وجد في شيوخه جمع من الضعفاء، أو ممن دونه فقد وجد في تلاميذه جمع من الضعفاء والمجهولين، ولو اتهمنا كلَّ من روى عن ضعيف أو مجهول خبراً باطلاً أو موضوعاً لا تهمنا كثيراً من الثقات رووا أباطيل عن ضعفاء ومجاهيل.
أضف إلى ذلك أن الدراوردي من رجال مسلم فقد جاز القنطرة كما يقال.
وقال البغوي: وسمعت أحمد يقول: إن الدراوردي يجىء بأحاديث ما أدري ما هي ـ كأنه أنكرها ـ
قلت: لعلها من غيره؛ لأنه " يروي ما سمعه مما فيه نكارة ولا ذنب له في النكارة بل الحمل على من فوقه، فالمعنى أنه ليس من المبالغين في التنقي والتوقي الذين لا يحدثون مما سمعوا إلا بما لا نكارة فيه ومعلوم أن هذا ليس بجرح " (1)
وقال المروذي سألته ـ يعني أحمد ـ عن الدراوردي فقال: ما أقول لك فيه، أحاديثه كأنه ينكر بعضها.
وهذا ظن لا تقوم به حجة، ويمكن حمله على معنى أنه، وإن كان في الأصل ثقة أو صدوقاً إلا أنه ربما جاء بالمنكر في الشيء بعد الشيء وهذا لا يقدح في ثقته كما لا يخفى.
ولا يخفي على البصير أن الإمام أحمد وكثير من المتقدمين يطلقون النكارة على مجرد التفرد، قال ابن الصلاح:
" وإطلاق الحكم على التفرد: بالرد، أو النكارة، أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث "
قال الحافظ ابن رجب في " شرح علل الترمذي " (252):
" ولم أقف لأحد من المتقدمين على حد المنكر من الحديث وتعريفه إلا على ما ذكره أبو بكر البرديجي الحافظ وكان من أعيان الحفاظ المبرزين في العلل: أن المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة أو عن التابعين عن الصحابة لا يعرف ذلك الحديث وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً"
وهذا مذهب الإمام أحمد، كما قرره ابن رجب في " شرح العلل" وهو خبير بأقوال إمامه، وقال الحافظ في مقدمة الفتح (412) في ترجمة بريد بن عبدالله بعد ذكر قول أحمد فيه: روى مناكير: " قلت: احتج به الأئمة كلهم وأحمد وغيره يطلقون المناكير على الأفراد المطلقة "
وخلاصة القول: أن الإمام أحمد رحمه الله قد يطلق النكارة ويقصد بها التفرد وهذا ليس بعلة، " بل الثقة الحافظ ـ إذا تفرد بأحاديث ـ كان أرفع له وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها، اللهم إلا أنْ يتبين غلطه ووهمه في الشيء فيعرف ذلك " (2).
وقال المروذي سألته ـ أي أحمد ـ عن ابن أبي حازم فقال: ليس به بأس، قلت: أعجب إليك من الدراوردي؟ فقال: نعم.
قلت: أما قوله: " أعجب ُ " أي أقرب إلى قبول خبره من الدراوردي فهي ليست بجرح، إنما تعني مفاضلة بين راويين ولا يقصد جرح المفضل عليه، ويستفاد منها الترجيح بين الروايات عند الاختلاف، وعلى كل هي مقاربة إلى قولهم:
" أحب إلي ".
وابن أبي حازم هو عبدالعزيز بن أبي حازم، سلمة بن دينار، المحاربي مولاهم، أبو تمام المدني،
أخرج له الجماعة، وهو ثقة إمام فقيه.
وثقه العجلي وابن نمير والنسائي وابن حبان وابن شاهين.
وقال ابن معين: ثقة صدوق ليس به بأس.
وقال النسائي: ليس به بأس.
وقال ابن سعد: كان كثير الحديث دون الدراوردي.
قلت: ورمز الإمام الذهبي لحديثه بالصحة وقال:أحد الثقات.
يوضح ذلك ما جاء عن الإمام أحمد كما في رواية المروذي "
" فأيما أعجب إليك هو ـ أي أبوبكر مستملي وكيع ـ أو محمود؟ قال: لا محمود غير هذا، محمود أعجب إليَّ "
أبو بكر مستملي وكيع هو محمد بن أبان وزير البلخي، يلقب حمدويه.
محمود بن غيلان العدوي مولاهم، أبو أحمد المروزي
قلت: وكلاهما ثقة
2ـ قال أبو حاتم: " لا يحتج بحديثه ".
¥