تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أخذ هؤلاء وأولئك في الأخذ واستيعاب العلوم والمعارف والثقافات التي أفرزتها الحضارة الإسلامية الموروثة، ثم تمثلوا ما أفرزه عصرهم وأطرهم الاجتماعية والحياتية من المعطيات الحضارية في مختلف فروع المعارف الإنسانية وشعبها من علوم وثقافات وألوان حياتية وعلاقات إنسانية، وراحوا بعد ذلك يبدعون ويؤلفون من تلك المواريث والشعب المعرفية إنتاجاً معرفياً ملوناً بخصوصيات مجتمعاتهم بأطره العلمية والثقافية من ناحية، وبخصوصيتهم هم باعتبارهم أناسي مبدعين من ناحية أخرى. فأورثونا بذلك المجلدات الضخمة الحفيلة بأفانين المعارف الإنسانية التي أفرزتها الحضارة الإسلامية، منذ الشروع بحركة التدوين فيها حتى عصرهم.

*السيوطي عالماً ومؤلفاً موسوعياً:

في هذا الوسط ذي المعارف المتعددة الألوان، والشعب التي انتظمت في عصر السيوطي، نشأ هذا العلامة المبدع جلال الدين، واستقامت له في فترة تكونه العلمي أسباب التلقي والأخذ من أفانين تلك المعارف المبتدعة منها والموروثة، حتى إذا ما آنسَ في نفسه القدرة على العطاء، وإيناع ملكة التأليف واستقامة أسبابها دلفَ إلى حلبة العلماء الموسوعيين يجاريهم بادئ بدء حَبْواً حين كان في السنة السابعة عشرة من عمره، يقول (15):

"وقد ألفت في هذه السنة ـ[أي السنة: 866هـ]ـ فكان أول شيء ألفته (شرح الاستعاذة والبسملة)، وأوقفت عليه شيخنا شيخ الإسلام علم الدين البلقيني، فكتب عليه تقريظاً".

وهكذا راض السيوطي قلمه بعدد من الكتيبات والرسائل، ثم أجراه فجرى ولم يشمس، حتى إذا كان عام واحد وتسعين وثمانمائة، تنكب الحياة العامة واعتزل شؤونها إثر حادثة عزله (16)، من مشيخة المدرسة البيبرسية (17)، وآثر مسكنه في روضة المقياس حيث انصرف إلى إشغال المريدين وتأليف الكتب والرد على المسائل، فكتب أكثر مؤلفاته التي ناهزت بضع مئات في عقدين من الزمان انتهيا بوفاته عام أحد عشر وتسعمئة.

لم يؤثر السيوطي الانصراف إلى الأشغال والتصنيف على المشاركة فيما يهتم به أصناؤه من التداريس والمشيخات والوظائف في قضاء أو نحو ذلك إلا بعد أن استقامت له آلة البحث وتوفرت لديه أداة التأليف، واكتملت له البراعة، والحذق في علوم شتى كثيرة صنفها هو نفسه من حيث تبحره فيها وإتقانه لها أو معرفته بها فقال (18):

"رزقت التبحر في سبعة علوم: التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والمعاني، والبيان والبديع". وقال:

والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم الستة سوى الفقه والنقول، التي اطلعت عليها وفيها، لم يصل إليها إلا وقف عليه أحد من أشياخي فضلاً عمن دونهم".

وقال: "ودون هذه السبعة في المعرفة: أصول الفقه، والجدل، والصرف.

ودونها: الإنشاء، والترسل، والفرائض.

ودونها: القراءات، ولم آخذها من شيخ.

ودونها: الطب.

وأما الحساب: فأعسر شيء عليَّ وأبعده من ذهني".

وراح يطلق قلمه للتأليف والكتابة في هذه الفنون كلها، وفي غيرها مما يعرض في خاطره من موضوعات حملتها أسفار المكتبة العربية الإسلامية واطلع عليها أو قرأها، كما يسجل كل ما يكتبه على المسائل والفتاوى مما يعرض عليه، يتناول ذلك وهو يملك الثقة كلها بغنى ما استقام له من أفانين المعارف في ذلك العصر.

بل أكثر من ذلك فقد وقر في نفسه ورآه ثابتاً في خلده أنه بلغ مرتبة المجتهدين من الأئمة، كما صرح بذلك، ووضع نفسه في ثبت المجتهدين في كتابه: (حسن المحاضرة)، في الفصل الذي أفرده للأئمة المجتهدين في الديار المصرية، بل تجاوز هذا إلى أنه كان يتطلع إلى أن يكون هو المبعوث على رأس المئة التاسعة ليجدد للأمة أمر دينها، يقول:

"ومن اللطائف أن شرط المبعوثين على رؤوس القرون مصريون، عمر بن عبد العزيز في الأولى، والشافعي في الثانية .. وابن دقيق العيد (19) في السابعة، والبلقيني (20)، في الثامنة، وعسى أن يكون المبعوث على رأس المئة التاسعة من أهل مصر".

وبلغ هذا التطلع عنده درجة القناعة بأنه هو المبعوث على رأس المئة التاسعة، يقول في رسالته (فيمن يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة):

"إني ترجيت من نعم الله وفضله كما ترجى الغزالي لنفسه أني المبعوث على هذه المئة التاسعة لانفرادي عليها بالتبحر في أنواع العلوم" (21)

ويقول في موضع آخر إنه نظم أرجوزة سماها: (تحفة المهتدين بأسماء المجتهدين)، ختمها بهذين البيتين:

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير