وهذه تاسعة المئين قد أتت ولا يخلف ما الهادي وعد
وقد رجوت أنني المجدد فيها ففضل الله ليس يجحد".
ووضع رسالة: (الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف)، قال فيها:
"فإن ثم من ينفخ أشداقه ويدعي مناظرتي، وينكر على دعوى الاجتهاد والتفرد بالعلم على رأس هذه المئة، ويزعم أنه يعارضني ويستجيش علي بمن لو اجتمع هو وهم في صعيد واحد، ونفخت عليهم نفخة واحدة صاروا هباءً منثوراً" (22).
كان أمر الاجتهاد عند السيوطي وبعثه على رأس المئة التاسعة مجدداً للأمة دينها خاطرة بادئ ذي بدء، ثم أصبح رجاء، ثم ما عتم أن استحال اعتقاداً ملك عليه جوانب نفسه، فذهب به مذهب الدعوى العريضة بالاجتهاد والإبداع، والاعتزاز بنفسه، واعتداده بما يؤلف ويكتب، وتجرئه على التصنيف في كل فن، ثم التباهي والتفاخر في مقدمات بعض كتبه، بأنه مخترع هذا العلم، ومبتدع ذاك، وأنه لم يسبقه أحد إلى كذا وكذا. ثم تجاوز ذلك إلى التعاظم والتعالي على ذوي الفضل من السلف وأولي العلم والحفظ والأقران.
*اتهامات السخاوي للسيوطي وأسبابها:
وهكذا تجتمع الأسباب لإحفاظ جماعة من معاصريه أولي الفضل والعلم، وتُشفَع بشيء مما يقع بين الأقران من التحاسد والتنافس، ففارقه نفر منهم، وانفض من حوله جماعة كانوا من أصدقائه ومحبيه، وراحوا يسفهون دعواه، ويتتبعون سقطاته، ويرصدون أخطاءه وهفواته، وجاء في مقدمتهم رصيفه الشمس السخاوي، فاشتد عليه في النكير، وشن عليه الغارة، وغلا في حطه عليه، بدا كل ذلك في ترجمة السيوطي في (الضوء اللامع) حيث بسط فيه لسانه بالقول الجارح، فقال منكراً عليه دعواه بلوغ مرتبة الاجتهاد وتبجحه وتنقصه ذوي الفضل والعلم:
"وأطلق لسانه وقلمه في شيوخه فمن فوقهم، بحيث قال عن القاضي العضد (23):
إنه لا يكون طعنة في نعل ابن الصلاح (24)، وعُزِّزَ على ذلك من بعض نواب الحنابلة بحضرة قاضيهم، ونقص الشريف الجرجاني، والرضي في النحو بما لم يُبْدِ مستنداً فيه مقبولاً، بحيث أنه أظهر لبعض الغرباء الرجوع عنه (25).".
وضرب السخاوي لذلك مثلاً حواراً جرى بين السيوطي وبين من حاجَّه في ذلك، وكيف أسقط في يده بعد أن أفحمه ذاك بقوة الحجة (26)، وقال السخاوي:
"وقد قام عليه الناس كافة لما ادعى الاجتهاد، وصنف هو (اللفظ الجوهري في رد خباط الجوجري)، و (الكر في خباط عبد البر) .... ".
ومضى السخاوي في إيراد الأمثلة على ذلك، ثم على تعاليه وتعاظمه وسوء تصرفه في معاملة أقرانه حتى أصدقائه المقربين من ذوي الفضل، يقول:
"وكذا راسل الكمال ابن أبي شريف وملا علي الكرماني بما لا يليق، وأرسل إليه الخطيب بولده للروضة ليعرض عليه، فرده معللاً ذلك بأنه لا يستكمل أباه للوصف بكذا وكذا وكتابة دون هذا لا ترضيه".
وقال السخاوي في موضع آخر:
"وفارقه المحيوي ابن مغيزل لما رأى منه الجفاء الزائد بعد كونه القائم بالتنويه به، وذكر عنه من الحقد والأوصاف والتعاظم ما يصدقه فيه الحال. ومن ذلك أنه توسل عند الإمام البرهاني الكركي في تعيينه لحجة كانت تحت نظره، فأجابه وزاده من عنده ضعف الأصل، وحضر إليه مع العلم سليمان الخليفتي لقبض ذلك، فما قال له: جزيت خيراً، ولا أبدى كلمة مؤذنة بشكره ... ".
ومضى السخاوي يضرب الأمثال على سلوكه في التعالي والتعاظم، ودعواه بأنه استقامت له أسباب الاجتهاد وآلاته، وبذلك فهو قادر على كتابة الأجوبة على مسائل العلماء على طريقة الاجتهاد، وأن لديه القدرة الخارقة على التأليف والكتابة والسرعة فيهما، وإيراد الأدلة من نقل وقياس ومقارنة لآراء المذاهب ونحو ذلك، قال السخاوي ينقل قول السيوطي:
"وقد كملت عندي آلات الاجتهاد بحمد الله. إلى أن قال: ولو شئت أن أكتب في كل مسألة تصنيفاً بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ومداركها ونقوضها وأجوبتها والمقارنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك، وقال: إن العلماء الموجودين يرتبون له من الأسئلة ألوفاً فيكتب عليها أجوبة على طريقة الاجتهاد، وأنه يرتب لهم من الأسئلة بعدد العشر فلا ينهضون".
ويمضي السخاوي قائلاً:
"وبالجملة فهو سريع الكتابة، لم أزل أعرفه بالهوس ومزيد الترفع ... قال: إنه عمل (النفحة المسكية والتحفة المكية). وهو بمكة على نمط (عنوان الشرف) لابن المقرئ في يوم واحد. وأنه عمل (ألفية في الحديث)، فائقة (ألفية العراقي)، إلى غير ذلك".
¥