فقال: ما أعجب هذا! تتفقان من غير مواطأة فيما بينكما؟ فقلت: فقد () ذلك أنا لم نجازف، وإنما قلناه بعلم ومعرفة قد أوتينا، والدليل على صحة ما نقوله بأن دينارا نبهرجا () يحمل إلى الناقد ()، فيقول: هذا دينار نبهرج، ويقول لدينار: هو جيد، فإن قيل له: من أين قلت أن هذا نبهرج؟ هل كنت حاضرا حين بهجر هذا الدينار؟ قال: لا. فإن قيل له: فأخبرك الرجل الذي بهرجه أني بهرجت هذا الدينار؟ قال: لا، قيل: فمن أين قلت إن هذا نبهرج؟ قال: علماً رزقت.
وكذلك نحن، رزقنا علما لا يتهيأ لنا أن نخبرك كيف علمنا بأن هذا الحديث كذب، وهذا حديث منكر إلا بما نعرفه " أهـ.
قلت: معنى كلام أبي حاتم رحمه الله تعالى أنه قد صارت له ولأبي زرعة وغيرهما من النقاد -وهم قليل كما سيأتي- "ملكة" قوية و "سجية" و "غريزة"، يكشفون بها زيف الزائف، ووهم الواهم وغير ذلك.
أسباب تحيل تلك "الملكة":
وهذه " الملكة لم يؤتوها من فراغ، وإنما هي حصاد رحلة طويلة من الطلب، والسماع، والكتابة، وإحصاء أحاديث الشيوخ، وحفظ أسماء الرجال، وكناهم، وألقابهم، وأنسابهم، وبلدانهم، وتواريخ ولادة الرواة ووفياتهم، وابتدائهم في الطب والسماع، وارتحالهم من بلد إلى آخر، وسماعهم من الشيوخ في البلدان، من سمع في كل بلد؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع؟ وكيف كتابه، ثم معرفة أحوال الشيوخ الذين يحدث الراوي عنهم، وبلدانهم، ووفياتهم، وأوقات تحديثهم، وعادتهم في التحديث، ومعرفة مرويات الناس عن هؤلاء الشيوخ، وعرض مرويات هذا الراوي عليها، واعتبارها بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحه.
هذا مع سعة الاطلاع على الأخبار المروية، ومعرفة سائر أحوال الرواة التفصيلية، والخبرة بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب، وبمظنات الخطأ والغلط، ومداخل الخلل.
هذا مع اليقظة التامة، والفهم الثاقب، ودقيق الفطنة، وامتلاك النفس عند الغضب، وعدم الميل مع الهوى، والإنصاف مع المواقف والمخالف، وغير ذلك.
وهذه المرتبة بعيدة المرام، عزيزة المنال، لم يبلغها إلا الأفذاد، وقد كانوا في القلة بحيث صاروا رؤوس أصحاب الحديث فضلاً عن غيرهم، وأضحت الكلمة إليهم دون سواهم.
ندرة أهل النقد ودقة منهجهم:
وليس ذاك الرجل الذي حكى أبو حاتم مجيئه إليه، وعرضه دفتره عليه – وقد كان من أهل الفهم من أصحاب الرأي – بأحسن حالاً من كثير من أهل بلده وعصره فضلاً عمن بعدهم.
قال أبو حاتم (): "جرى بيني وبين أبي زرعة يوماً تمييز الحديث ومعرفته، فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها، وخطأ الشيوخ، فقال لي: يا أبا حاتم، قل من يفهم هذا، ما أعز هذا، إذا رفعت هذا من واحد واثنين فما أقل من تجد من يحسن هذا. وربما أشك في شيء أو يتخالجني شيء في حديث، فإلي ألتقي معك لا أجد من يشفيني منه. قال أبو حاتم: وكذاك كان أمري.
فقال ابن أبي حاتم: قلت لأبي. محمد بن مسلم [يعني: ابن وارة]؟ قال: يحفظ أشياء عن محدثين يؤديها، ليس معرفته للحديث غريزة". أهـ.
وابن وارة حافظ ثبت، قال ابن أبي حاتم: ثقة صدوق، وجدت أبا زرعة يجله ويكرمه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أحفظ من رأيت: ابن الفرات، وابن وآرة، وأبو زرعة. وقال النسائي: ثقة صاحب حديث. وقال الطحاوي: ثلاثة بالري لم يكن في الأرض مثلهم في وقتهم: أبو حاتم وأبو زرعة وابن وارة.
ومع ذلك يقول عنه أبو حاتم: ليس معرفته للحديث غريزة.
فأنت ترى عزة هؤلاء النفر وندرتهم بين أهل زمانهم، ووعورة طريقتهم على أكثر الخلق – وفيهم جملة من المشتغلين بالحديث وروايته – مع اطلاع الكثير على أحوالهم، وسعة حفظهم، وتوفر المقتضى الداعي لفهم منهجهم، من القرب منهم، وإمكانية الرجوع إليهم، مع مشاهدة ميدان الرواية، ومجالس التحديث، وأحوال الرواة تحملاً وأداءً، ودرجاتهم في التثبت والاحتياط، وغير ذلك من المجالات التي تدور عليها تعليلات هؤلاء النقاد.
فإذا كان الأمر على نحو ما ذكرت، فليس من عجب أن تزداد تلك الوعورة على من بعدهم، وتزداد الهوة بينهم، إلى سائر الأزمان المتأخرة، وهلهم جرا إلى زماننا هذا.
رأس مال الناقد:
¥