يقول الخطيب البغدادي (): "أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين الضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا، والثابت مصدوفا عنه مطروحاً، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز، وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين، والأعلام من سلفنا الماضين".
نقل ذلك ابن رجب في "شرح العلل" (1/ 409)، ثم قال: "وهذا الذي ذكره الخطيب حق، ونجد كثيراً ممن ينتسب إلى الحديث لا يعتني بالأصول الصحاح كالكتب الستة ونحوها، ويعتني بالأجزاء الغريبة، وبمثل مسند البزار، ومعاجم الطبراني، أو أفراد الدار قطني، وهي مجمع الغرائب والمناكير" اهـ.
ويلتحق بما ذكره ابن رجب: كتب الضعفاء، ككتاب العقيلي، وابن حبان، وابن عدي، وكتاب "الحلية" لأبي نعيم، و "مسند الفردوس" للديلمي، وأغلب ما يساق في تراجم الرواة في كتب التواريخ مثل: تاريخ الخطيب، والحاكم، وابن عساكر، وغيرها، وكتابي أبي الشيخ وأبي نعيم في "الأصبهانين" وغيرها من كتب تواريخ البلدان، وطبقات الرواة، وكتب "الفوائد"، والأجزاء الحديثية.
وهؤلاء وغيرهم إنما قصدوا جمع غرائب الأحاديث، وأوهام الرواة، وراموا جمع ما لم يكن مخرجاً في كتب الصحاح والأصول المعروفة، وإنما كانت تلك الأحاديث متداولة على ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، فهجروها عمداً ولم يخرجوها في كتبهم، وقد كانت تدور تارة بين الوعاظ المتشدقين، وتارة بين المتفقهين، وتارة بين أهل الأهواء والبدع في الدين، وتارة بين الضعفاء والمجروحين، وربما كان أصل تلك الأحاديث: آثاراً لبعض الصحابة والتابعين، أو كلاماً لبعض الحكماء الواعظين، أو قواعد مستنبطات من الفقه في الدين، أو أخبارً لبني إسرائيل، أو معاني محتملات أو مفهومات من بعض أدلة الكتاب والسنة، فرواها قوم لا يعرفون غوامض الرواية، فجعلوها أحاديث مستقلة برأسها عمداً أو خطأ، وربما كانت جملاً شتى في أحاديث مختلفة، جعلوها حديثاً واحداً بنسق واحد.
وهذه الأحاديث لا تخلو عن أمرين:
إما أن المتقدمين تفحصوا عنها ولم يجدوا لها أصولاً حتى يشتغلوا بروايتها.
وإما أنهم وجدوا لها أصولاً ولكن صادفوا فيها قدحاً أو علة موجبة لترك روايتها فتركوها ().
وعلى كل حال فليست تلك الأحاديث صالحة للاعتماد عليها، حتى يتمسك بها في عقيدة أو عمل.
وقد أضل هذا القسم قوماً ممن لم يتدبروا ما سلف من مناهج الأئمة والمصنفين، فأغتروا بكثرة الطرق الورادة في تلك المصنفات، وحسبوا أنهم وقفوا على ما لم يقف عليه المتقدمون، فسموا تلك الطرق "متابعات" و "شواهد" فجعلوا الغرائب والمناكير عواضد يشدون بها ما تسقر أهل النقد على طرحه ووهنه.
ولم يفطن هؤلاء القوم إلى أن عصور الرواية قد انقضت وتلك الأحاديث في عيون النقاد غريبة منكرة مهجورة.
فلم ينصف هؤلاء أسلافهم ولم يقدروهم قدرهم، بل دل صنيعهم على اعتقاد أنهم قصروا في تحصيل تلك الطرق، ولم يفطنوا إلى منهج أولئك المصنفين في أنهم ما أخرجوا تلك الطرق للاحتجاج ولا للاعتبار.
وهذا المبحث يحتاج إلى بسط، ليس هذا موضوعه، ولعل فيما ذكرت إشارة إلى ما أردناه. ولعلنا في قسم القواعد، ومناهج الأئمة والمصنفين، نتناوله بشيء من التوسع إن شاء الله تعالى.
والأئمة لا يقفون عند نقدهم لغرائب الضعفاء والمجاهيل فحسب، بل كان البارعون منهم ينتخبون الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة من أصول شيوخ ثقات لهم أو لغيرهم، وحرصاً منهم على تمييز تلك الأحاديث، كان يرسم كل منهم أمام الأحاديث علامة خاصة به ليتميز بها عن علامات أصحابه.
وقد عقد أبو بكر الخطيب في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" بابا خاصا بعنوان: "رسم الحافظ العلامة على ما ينتخبه" ().
ومن ا لواضح مما هناك أن أكثر النقاد لا ينتخبون من الأصول إلا الأحاديث الغريبة والروايات المنكرة، وذلك أنهم يريدون به لفت انتباه من ينظر فيها إلى غرابتها ونكارتها، وهذا الصنيع لا يقدر عليه إلا فحول النقاد وفرسانهم.
¥