وقد أورد الخطيب هناك أمثلة، منها حديث قتيبة بن سعيد عن الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل مرفوعاً، وفيه جمع التقديم في غزوة تبوك. هذا الحديث قد أعله أئمة النقد قائلين بأن قتيبة تفرد به عن الليث بهذا الإسناد، وأن هذا الحديث قد أعله أئمة النقد قائلين بأن قتيبة تفرد به عن الليث بهذا الإسناد، وأن هذا الحديث لا يعرف عن الليث، ولم يروه عنه أهل مصر، ولا هو عند أصحابه، ولا في أصوله المعروفة، من هؤلاء النقاد ممن صرحوا بإعلاله: الإمام البخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، والترمذي، وابن يونس، والحاكم والبيهقي وغيرهم، كما سيأتي. قال الحاكم في "معرفة علوم الحديث" ص: 120 "هذا حديث رواته أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن .. وقد حدثونا عن أبي العباس الثقفي قال: كان قتيبة بن سعيد يقول لنا: على هذا الحديث علامة أحمد بن حنبل، وعلى بن المديني، ويحيى بن معين، وأبي بكر ابن أبي شيبة، وأبي خيثمة، حتى عد قتيبة أسامي سبعة من أئمة الحديث، كتبوا عنه هذا الحديث. وقد أخبرناه أحمد بن جعفر القطيعي قال: ثنا عبد الله ابن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال: ثنا قتيبة فذكره.
قال الحاكم: فأئمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجباً من إسناده ومتنه ... ".
وقد اتفق أصحاب "الملكة" من النقاد على إعلال هذا الحديث، وأنه خطأ ولا أصل له، مع اختلافهم في تحديد المخطئ فيه، وهذا لا يؤثر في الاتفاق المذكور ().
ولم يجر على ظاهر إسناد هذا الحديث فصححه إلا نفر من المتأخرين والمعاصرين، وهذا مظهر من مظاهر تلك الهوة التي لا تبرح في زيادة بين النقاد ومن بعدهم، والتي أشرنا إليها آنفاً.
ولم يسع الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بعد عرض مذاهب النقاد في إعلال هذا الحديث إلا أن يسجل شهادته الخالدة، فيقول (): "وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك، والتسليم لهم فيه، وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى على ظاهر الإسناد" اهـ.
5 - ومنها: معرفة من ضعف حديثه من الثقات في بعض الأوقات دون بعض، وهم من اختلطوا أو تغيروا أو ذهب بصرهم، أو كتابهم، في آخر عمرهم ().
6 - ومنها: معرفة من ضعف حديثه في بعض الأمكنة دون بعض ().
7 - ومنها: معرفة من ضعف حديثه عن بعض الشيوخ دون بعض ().
8 - ومنها: المعرفة الناشئة عن كثرة الممارسة لأحاديث الرواة، بحيث يصير للناقد فهم خاص يدرك به أن هذا الحديث يشبه حديث فلان، ولا يشبه حديث فلان، فيعلل الأحاديث بذلك، وهذا إنما يكون لأهل الحذق من صيارفه النقاد ().
ملكة "الحفظ":
ولم يكن الأمر متوقفاً عند مجرد "الحصر"، وإنما كانوا يحفظون ما حصروه عن ظهر قلب، يمثل أمام أعينهم متى احتاجوا إليه.
قال أبو زرعة (): "سمعت من بعض المشايخ أحاديث، فسألني رجل من أصحاب الحديث فأعطيته كتابي، فرد علي الكتاب بعد ستة أشهر، فأنظر إلى الكتاب، فإذا إنه قد غير في سبعة مواضع. فأخذت الكتاب وصرت إلى عنده، فقلت: ألا تتقي الله، تفعل مثل هذا؟ فأوقفته على موضع موضع، وأخبرته، وقلت له: أما هذا الذي غيرت فإنه هذا الذي جعلت عن ابن أبي فديك، فإنه عن أبي ضمرة مشهور، وليس هذا من حديث ابن أبي فديك، وأما هذا فإنه كذا وكذا، فإنه لا يجيء عن فلان، وإنما هذا كذا، فلم أزل أخبره حتى أوقفته على كله، ثم قلت له: فإني حفظت جميع ما فيه في الوقت الذي انتخبت على الشيخ، ولو لم أحفظه لكان لا يخفى على مثل هذا، فاتق الله عز وجل يا رجل" اهـ.
فانظر إلى هذا الحفظ العجيب، يحفظ ما انتخبه على الشيخ ساعة انتخابه له، ثم يفارقه الكتاب قبل أن يعاود النظر فيه، إلى ستة أشهر، ثم هو لا يخرم منه حرفاً!
وتدبر قوله: "ليس هذا من حديث ابن أبي فديك ... فإنه لا يجيء عن فلان " وتذكر ما أشرنا إليه من حقيقة "الإحصاء".
¥