وأدق من ذلك " أن رجلاً دفع إلى أبي زرعة حديثاً فقال اقرأ، فلما نظر أبو زرعة في الحديث قال: من أين لك هذا؟ قال: وجدته على ظهر كتاب ليوسف الوراق. قال أبو زرعة: هذا الحديث من حديثي، غير أني لم أحدث به. قيل له: وأنت تحفظ ما حدثت به مما لم تحدث به؟ قال بلى، ما في بيتي حديث إلا وأنا أفهم موضعه" ().
فكم من حديث سمعه الناقد أو كتبه، ثم أعرض عنه ولم يحدث به، لما علم من شذوذه، أو خطأ روايه، ولذا فإن عدم تداول أهل النقد لحديث بالرواية ليسير إلى حالة واستحقاقه للترك والهجر.
وأكثر بيان في "الحفظ" ما ذكره ابن أبي حاتم () قال: حضر عند أبي زرعة: محمد بن مسلم (بن وارة) والفضل بن العباس المعروف بالصائغ، فجرى بينهم مذاكرة، فذكر محمد بن مسلم حديثاً فأنكر فضل الصائغ ... فقال محمد بن مسلم لأبي زرعة: أيش تقول: أينا المخطئ؟ فسكت أبو زرعة ... وجعل يتغافل – فألح عليه محمد بن مسلم – فقال أبو زرعة: هاتوا أبا القاسم ابن أخي فدعى به، فقال: أذهب وأدخل بيت الكتب، فدع القمطر الأول، والقمطر الثاني، والقمطر الثالث، وعد ستة عشر جزءاً، وأئتني بالجزء السابع عشر، فذهب فجاء بالدفتر فدفعه إليه، فأخذ أبو زرعة فتصفح الأوراق وأخرج الحديث، ودفعه إلى محمد بن مسلم، فقرأه محمد بن مسلم، فقال: نعم غلطنا فكان ماذا؟ " اهـ.
واستقصاء هذا وشرح عجائبه يطول جداً، وإنما هذا غيض من فيض.
ولم يقف الأمر عند مجرد "الإحصاء" و "الحفظ للأحاديث"، بل كانوا يحصون على الرواة – لا سيما المدلسين – صيغ الأداء في الرواية.
قال شعبة (): "نصصت على قتادة سبعين حديثاً كلها يقول: سمعت من أنس، إلا أربعة" اهـ.
بل كانتوا يحصون ما أخذه الراوي عن شيخه سماعاً، وما أخذه عنه من كتاب بغير سماع.
قال أبي المديني (): سمعت يحيى بن سعيد قال: كان شعبة يقول: أحاديث الحكم عن مقسم كتاب إلا خمسة أحاديث. قلت ليحيى: عدها شعبة؟ قال: نعم: حديث الوتر، وحديث القنوت، وحديث عزمة الطلاق، وحديث جزاء مثل ما قتل ما النعم، والرجل يأتي امرأته وهي حائض" اهـ.
ولذا فلا تعجب إذا حكم الأئمة الجهابذة على رواية فيها تصريح بالسماع أو ما يدل عليه بالخطأ والوهم، ولو كان الإسناد ظاهره الصحة، لأن الأئمة ليسوا كما يظن البعض "حملة أسفار" بل هم "نقدة أخبار".
والنقاد يضبط حال السماع والكتابة صيغ الأداء، بل ويوقف عليها الشيوخ، فيكشف بعد ذلك عن أوهام الرواة وأخطائهم.
قال أبو داود () – وهو الطياليسي -: نا شعبة عن الأعمش عن إبراهيم أن عليا كان يجعل للإخوة من الأم – يعني في المشتركة. قلت للأعمش: سمعته من إبراهيم؟ فقال برأسه أي: نعم " اهـ.
فانظر إلى توقيف شعبة للأعمش في سماعه هذا من إبراهيم وهو ابن يزيد النخعي، مع أن إبراهيم من شيوخ الأعمش الذين أكثر عنهم، حتى قال بعض الحفاظ المتأخرين – وهو الذهبي رحمه الله – أنه لا يقبل من الأعمش – لتدليسه – إلا ما صرح فيه بالسماع، إلا في شيوخ قد أكثر عنهم، كإبراهيم، وأبي وائل – شقيق بن سلمة، وأبي صالح السمان، قال (): "فإن روايته عن هذا الصنف محمولة على الاتصال".
فبان بإيقاف شعبة للأعمش أن ا لأمر ليس بهذا الإطلاق، وإنما هو للغالب، والله تعالى أعلم ().
وهذا حجاج بن أرطاة أحد المكثرين من التدليس، قال غير واحد من النقاد أنه لم يسمع من الزهري شيئاً. قال الترمذي (): فقلت له يعني للبخاري -: فإنهم يرون عن الحجاج قال: سألت الزهري.
قال: لا شيء، يروي عن هشيم قال: قال لي الحجاج: صف لي الزهري " اهـ.
وقال أبو زعرة (): لم يسمع الحسن البصري من أبي هريرة ولم يره، قيل له: فمن قال: ثنا أبو هريرة؟ قال: يخطئ " اهـ.
وقال ابن أبي حاتم (): سألت أبي: سمع الحسن من جابر؟ قال: ما رأي، ولكن هشام بن حسان يقول عن الحسن: ثنا جابر بن عبد الله، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرا" اهـ.
وقال ابن المديني (): سمعت يحيى – يعني القطان – وقيل له: كان الحسن يقول: سمعت عمران بن حصين؟ فقال: أما عن ثقة فلا " اهـ.
¥