بل ترك يحيى بن سعيد القطان أسامة بن زيد الليثي، لما روى عن الزهري قال: سمعت سعيد بن المسيب، مع اتفاق أصحاب الزهري على روايته عن سعيد بالعنعنة ().
وأمثلة هذا الضرب من النقد أكثر من أن تحصى.
وبالجملة فهذا الباب يحتمل كتاباً مستقلاً، وقد أجمعت العزم على إفراده بالذكر إن شاء الله تعالى، في رسالة مستقلة.
والمقصود ههنا التذكير بعظم قدر أئمة النقد، والتقريب لما كانوا يتمتعون به من ملكات فذة، وغرائز حديثية متميزة، وحافظ ثاقبة، وأفهام دقيقة، ويقظة عالية، وهمة سامقة، وصبر على شظف العيش لا يوصف، وتحمل لمشقات الرحلة لا يباري.
هذا مع اعتقاد أن الكمال لله وحده، وأن لا عصمة إلا لمن عصمه الله تعالى، ولكن الحق لايغيب عن جماعة أهل النقد، فمن الناس بعدهم؟
ولعل فيما ذكرته ههنا مقنع لمن درجوا على الاستقلال بنقد الأحاديث تصحيحاً وتضعيفاً، اغتراراً بظواهر الأسانيد، دون الاستبصار بنقد أصحاب "الملكة" ومهم أهل "التخصص"، ومن حباهم الله عز وجل – مما سبق الإشارة إليه – ما أهلهم للقيام على هذا الصغر العظيم من ثغور الإسلام، ألا وهو حفظ الآثار أن يداخلها ما ليس منها، وتنقيتها مما التصق بها خطئاً أو عمداً.
وكم ممن غلبته سكرة "التعالم" ونشوته، فرد تحقيقات النقاد من طرف القلم، بأمور بديهية لم تكن خافية على المبتدئين، وإنما أخذها هؤلاء "التعالمون" من أوليات أولئك الجهابذة، فانتهى هؤلاء إلى حيث يبدأ الناقد السبق، فكيف بالقاعد أن يزاحم الفرسان، أم كيف بالخالف أن يبلغ العنان.
وكأن لسان حال الناقد يقول للمتعلم:
أأبيت سهران الدجى وتبيته نوما وتبغي بعد ذاك لحاقي
وأرجو إذا يسر الله تعالى إتمام هذا الكتاب – بأقسامه – كما أحب، أن يتضح لقارئه سبيل القوم في نقد الرواة والأخبار، وعسى أن يكون ذلك داعياً لي ولأولي الهمم إلى الاستعداد لسلوكه، فيكون منهم أئمة مجتهدون في ذلك إن شاء الله تعالى ().
هذا، والله تعالى الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ـ[أهل الحديث]ــــــــ[03 - 05 - 03, 07:42 م]ـ
تحرير تقريب التهذيب
للحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني
المتوفي سنة 852هـ
تأليف
الدكتور بشار عواد معروف
والشيخ شعيب الأرنؤوط
الجزء الأول
مؤسسة الرسالة
قال بشار عواد وشعيب الأرناؤوط:
الأولى: ما تجمع لدينا من أحكام أثناء قيامنا بتحقيق "تهذيب الكمال" وما استدركناه عليه من أقوال في الجرح والتعديل مما لم يقف عليه هو أو المعنيون بكتابه من المختصرين والمستدركين.
الثانية: ما يسر الله سبحانه لنا من خبرة عملية بالرجال وأحاديثهم بعد قيامنا بتحقيق عدد من أمهات دواوين السنة النبوية، وتخرج أحاديثها والحكم على أسانيدها في مدة تزيد على ثلاثين عاماً.
ويتعين علينا قبل بيان منهجنا الذي انتهجناه في عملنا هذا أن نقرر بعض الحقائق والقواعد، ليكون القارئ العالم على بينة تامة من هذا النهج:
أولاً: النقد الحديثي بين المتقدمين والمتأخرين:
لقد شاع بين الناس أن النقد الحديثي يقوم على الإسناد والنظر فيما قرره النقاد الجهابذة من أحوال الرواة جرحاً أو تعديلاً، وهو أمر يحتاج إلى دراسة وإيضاح، فالنقد الحديثي فيما نرى مر بمراحل متعددة:
المرحلة الأولى: وتقوم على نقد المتون، وعلى أساسها تم الكلام في الرواة جرحاً أو تعديلاً، وهي مرحلة تمتد من عصر الصحابة حتى نهاية النصف الأول من القرن الثاني الهجري، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يرد بعضهم على بعض حينما يستمعون إلى متون الأحاديث المروية، والأحكام المتصلة بها، فترد عائشة مثلاً على أبي هريرة وابن عمر وأبيه، ويرد عمر على عائشة وعلى فاطمة بنت قيس، وهلم جراً ويظهر ذلك في العديد من الأحاديث التي ساقها البخاري ومسلم في "صحيحهما".
المرحلة الثانية: وهو طور التبويب والتنظيم، وجمع أحاديث كل محدث والحكم عليه من خلال دراستها، ويتبدى ذلك في الأحكام التي أصدرها علي ابن المديني، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وأضربهم.
¥