تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

غير أنه لا يخالجنا شك أن بعض العلماء المتقدمين قد تكلموا في الرجال جرحاً أو تعديلاً لمعاصرتهم لهم أو اجتماعهم بهم، مثل مالك بن أنس، والسفيانين، وشعبة بن الحجاج، وحماد بن زيد، والأوزاعي، ووكيع بن الجراح، وأن الطبقة التي تلت هؤلاء تكلموا في الرواة الذي أخذوا عنهم، واتصلوا بهم، لكن كيف نفسر كلام كبار علماء الجرح والتعديل ممن عاشوا في المئة الثالثة في رواة لم يحلقوهم من التابعين ومن بعدهم، ولم يؤثر للمتقدمين فيهم جرح أو تعديل، فندعي أنهم اعتمدوا أقوال من سبقهم في الحكم عليهم؟ بيان ذلك في الأمثلة الآتية الموضحة:

قال ابن أبي حاتم في ترجمة أحمد بن إبراهيم الحلبي، "سألت أبي عنه، وعرضت عليه حديثه، فقال: لا أعرفه، وأحاديثه باطلة موضوعة كلها ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذاب" ().

وقال في ترجمة أحمد بن المنذر بن الجارود القزاز: "سألت أبي عنه، فقال: لا أعرفه، وعرضت عليه حديثه، فقال: حديث صحيح" ().

وقال أبو عبيد الأجري في مسلمة بن محمد الثقفي البصري: "سألت أبا داود عنه، قلت: قال يحيى (يعني ابن معين): ليس بشيء؟

قال: حدثنا عنه مسدد، أحاديثه مستقيمة: قلت: حدث عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: إياكم والزنج، فإنهم خلق مشوه. فقال: من حدث بهذا فاتهمه ()!.

فهذه الأمثلة الثلاثة واضحة الدلالة على أن أبا حاتم الرازي وأبا داود لم يعرفا هؤلاء الرواة إلا عن طريق تفتيش حديثهم المجموع، وأنهما أصدرا أحكامها استناداً إلى ذلك.

ومثل ذلك قول البخاري "ت256" في إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي المدني "83 - 165هـ": منكر الحديث، وقول أبي حاتم الرازي "ت 277هـ" فيه: شيخ ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، منكر الحديث، وقول النسائي "ت303هـ" فيه: ضعيف ().

فهؤلاء العلماء الثلاثة لم يدركوه ولا عرفوه عن قرب ولا نقلوا عن شيوخهم أو آخرين ما يفيد ذلك، فكيف تم لهم الحصول على هذه النتائج والأقوال؟ واضح أنهم جمعوا حديثه ودرسوه، وأصدروا أحكامهم اعتماداً على هذه الدراسة.

وحينما يذكر المتقدمون أن النقد إنما يقوم على العلماء الجهابذة، فليس معنى ذلك أنه يقوم على دراسة الإسناد، يقول ابن أبي حاتم: "فإن قيل: فبماذا تعرف الآثار الصحيحة والقسيمة؟ قيل: بنقد العلماء الجهابذة الذين خصهم الله عز وجل بهذه الفضيلة، ورزقهم هذه المعرفة في كل دهر وزمانِ" ().ثم قال: "قيل لابن المبارك: وهذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة " ().

ولعل الرواية الآتية أبين دليل على أن العلماء الذين تمرسوا بهذا العلم في هذه المرحلة إنما كانوا يتقدمون المتون أكثر من نقدهم الأسانيد، قال أبو حاتم الرازي: "جاءني رجل من جلة أصحاب الرأي، من أهل الفهم منهم، ومعه دفتر فعرضه علي، فقلت في بعضها: هذا حديث خطأ قد دخل لصاحبه حديث في حديث، وقلت في بعضه: هذا حديث باطل، وقلت في بعضه: هذا حديث منكر، وقلت في بعضه: هذا حديث كذب، وسائر ذلك أحاديث صحاح. فقال لي: من أين علمت أن هذا خطأ، وأن هذا باطل، وأن هذا كذب؟ أأخبرك راوي هذا الكتاب بأني علطت وأني كذبت في حديث كذا؟ فقلت: لا ما أدري هذا الجزء من رواية من هو؟ غير أني أعلم أن هذا خطأ، وأن هذا الحديث باطل، وأن هذا الحديث كذب. فقال: تدعي الغيب. قال: قلت: ما هذا ادعاءً الغيب. قال: فما الدليل على ما تقول؟ قلت: سل عما قلت من يحسن مثل ما أحسن، فإن اتفقنا علمت أنا لم نجازف ولم نقله إلا بفهم. قال: من هو الذي يحسن مثل ما تحسن؟ قلت: أبو زرعة. قال: ويقول أبو زرعة مثل ما قلت؟ قلت: نعم. قال: هذا عجب. فأخذ فكتب في كاغد ألفاظي في تلك الأحاديث، ثم رجع إلى وقد كتب ألفاظ ما تكلم به أبو زرعة في تلك الأحاديث فما قلت: إنه باطل، قال أبو زرعة: هو كذب، قلت: الكذب والباطل واحد، وما قلت: إنه كذب، قال أبو زرعة: هو باطل، وما قلت إنه منكر، قال: هو منكر، كما قلت، وما قلت: إنه صحاح، قال أبو زرعة: هو صحاح. فقال: ما أعجب هذا، تتفقان من غيره موطأة فيما بينكما. فقلت: فقد تبين لك أنا لم نجازف وإنما قلنا بعلم ومعرفة قد أوتينا.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير