(بين الشيخ أن قوت السنة ووضوح ألتنافر بينها وبين علوم المنطق كان عائقا دون ذلك)
فهذان العائقان (قوة علوم السنة ورسوخها ووضوح التنافر بين علوم السنة والعلوم العقلية) هما بوابة حماية علوم السنة. وبينهما تلازم وتكامل في عوامل بقائهما، فإذا ضعف أحد هذين العائقين، فكلاهما، أمكن أن يلج علم غريب على علوم السنة، وأن يتطفل عليها من لا يحسنها.
لكن لما دخل القرن الهجري الرابع، بدأ هذان العائقان بالضعف، مما فتح ثغرةً للعلوم العقلية بالتأثير على العلوم النقلية.
وقد أرخ لنا بداية هذا التأثر، حادثة مشهرة، وقعت سنة (309هـ)، بين ابن خزيمة وبعض تلامذته ممن تأثر بمذهب ابن كلاب (1).
ثم بين الشيخ بإسهاب في كيف أثرت العلوم العقلية على علوم السنة وبين النوافذ التي نفذت من خلالها حتى أن أحد العماء يفهم كلام أهل لاصطلاح على اصطلاح أهل علم آخر.
بل بلغ تعمق ا لا ثر ا لا صولي عند القاضي عيا ض الى درجة فهم كلام ا لا ما م مسلم على اصطلاحات ا لا صوليين و ا حكا مهم!
ورد الشيخ ذلك لنحراف ردا أزاح به الغبار الذي كان يغطي به على فهم كلام أهل لاصطلاح.
لم يجيب الشيخ:
إن مصطلحات الحديث كانت في نشوئها وتطورها مواكبة لحركة تدوين السنة. لذلك فإن أي علامةٍ من علامات انتعاش وارتقاء حركة التدوين، يدل ذلك ـ طرداً ـ على ظهور مصطلحات تخدم السنة واستقرار مدلولاتها.
ففي هذا العصر ـ عصر أتباع التابعين ـ يقل أن تجد مصطلحاً من مصطلحات الحديث، إلا وقد تداوله العلماء من أهل هذا العصر، ودار على ألسنتهم، في التعبير عن أحوال الرواية المختلفة، وعن مراتب الرواة قبولاً ورداً.
القرن الثالث الهجري (200هـ ـ 300هـ) هو القرن الذي شهدت فيه علوم كثيرة تحولاً عظيماً، على يد علماء عاشوا في هذا القرن، كانوا أئمة العلم والدين، وقدوة في ذلك للأجيال من بعدهم.
فإذا خصصت علوم السنة بالحديث، فهذا العصر الذهبي له. الذي ما إن يذكر حتى تتمثل في المخيلات: صورة الآلاف المؤلفة من طلاب الحديث وهم يلتفون حول أحد أعيانه (1)، وازدحام بلدان الإسلام وعواصمه بالمحدثين وهم رائحون غادون من مسجدٍ إلى منزل إلى ساحةٍ، من عالم إلى عالم، معهم المحابر والأقلام والكاغد. وأحسب لو نظرت إلى الصحاري وطرق المسافرين ومنازل السفر، لرأيت الأحمال تحط وترحل، والقوافل متتابع نم إسبيجاب وبخارى، إلى قرطبة وإشبيلية، ومن القوقاز إلى صنعاء وعدن، في حركةٍ دؤوب، وموج تلو أمواج متتابعة ٍ، تحكي عجائب الرحلة في طلب الحديث!
أما تدوين السنة، الذي جعلناه مقياساً لتطوير مصطلح الحديث، فهذا العصر هو عصر أصول السنة وأمهات الدين، فهو عصر: مسند الإمام أحمد، والكتب الستة، ومنها الصحيحان!!
وما أدراك ما الصحيحان؟!!
ما انقضى هذا القرن، إلا والسنة جميعها مدونة. ولم يبق من الروايات الشفهية غير المدونة في المصنفات ـ بعد هذا العصر شيء يذكر، إلا روايات الأفاكين وأحاديث المختلقين، أو أخبار المواهمين المخلطين.
ولذلك اعتبر الإمام الذهبي (ت 748هـ) رأس سنة ثلاثمائة الحد الفاصل بين المتقدمين والمتأخرين (2)، ورأى بذلك أنه من سنة ثلاثمائة: انقرض عهد الرواة الذين يروون ما لا يوجد في الدنيا مكتوباً إلا في محفوظ صدورهم، ولم يبق ـ بعد أولئك ـ إلا المحدثون المقيدون للسماعات على النسخ الحديثة (3)
وتدوين السنة جميعها بانتهاء القرن الثالث، هو ما جعل الأئمة بعد ذلك يتخففون من شروط الراوي والرواية (أي في العدالة والضبط)، لأن الغرض من الرواية أصبح الإبقاء على خصيصة الإسناد لهذه الأمة، وليس تقييدها بالكتابة وجمعها خوفاً من ضياع أو تفلت شيءٍ منها، إذ هذا ما ضمن عدم وقوعه بتمام تدوين السنة على رأس سنة ثلاثمائة.
فإذا كان تدوين السنة قد انتهى إلى هذه القمة، في هذا العصر، فكذلك كان شأن بقية علوم الحديث ومصطلحه خاصة. للترابط بين التدوين ومصطلح الحديث، الذي كنا قد قررناه سابقاً (1).
كيف قال الشيخ:
وأريد أن ألفت الانتباه هنا، إلى ملحظٍ مهم بخصوص نشأة المصطلحات، وهو علاقة تلك المصطلحات ومدلولاتها العرفية بالمعنى اللغوي الأصلي للكلمة.
¥