حديث الطير (6): الذي هو من أبرز الأحاديث التي تُكلم في الحاكم بسببها؛ فهذا الحديث خلاصته أن أنس بن مالك – رضي الله عنه – تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له طير مشوي، فقال عليه الصلاة والسلام: " اللهم أئتني بأحب خلقك إليك بأكل معي من هذا الطير "، قال أنس: " فقت: اللهم اجعله امرأ من الأنصار – لأنه أنصاري – قال: فإذا بالباب يُطرق ففتحت الباب، فإذا هو علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-، فقلت له: النبي على حاجة فانصرف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية فقال: "اللهم أئتني بأحب خلقك إليك بأكل معي من هذا الطير "، فقال أنس نفس مقولته. فطرق الباب فإذا هو علي –رضي الله عنه -، فقال له أنس مثلما قال سابقاً.
وفي المرة الثالثة أو الرابعة دفع علي في صدر أنس، ثم دخل فقال له النبي صلى الله عليه وسم " ما الذي أبطأ بك يا علي؟ "، فقال: يا رسول الله، هذه هي المرة الثالثة أو الرابعة التي يردني فيها أنس. فقال له-عليه السلام، فقال أنس: يا رسول الله، دعوت بدعائك الذي دعوت به فرجوت أن يكون امرأ من الأنصار. فقال له النبي الكريم – عليه السلام -: "إن الرجل قد يحب قومه " أي فعذره.
فقوله صلى الله عليه سلم: "اللهم ائتني بأحب خلقك إليك" ظاهره أنه أحب من سائل الأنبياء، بل من النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن كونه أحب من أبي بكر وعمر وعثمان ومن سائر صاحبة النبي – رضي الله عنهم أجمعين -.
فهذا الحديث هو من الأحاديث التي يتقوى بها الشيعة وأهل الرفض، ولكن الذي حير بعض الأئمة أن هذا الحديث طرق كثير جداً عن أنس – رضي الله عنه -، وقد صححه ابن جرير الطبري – رحمه الله – وله فيه مؤلف.
ومن احتار في هذا الحديث: الذهبي – رحمه الله – حيث قال: "وأما حديث الطير فله طرق كثيرة جداً قد أفردتها في مصنف، ومجموعها يوجب أن يكون الحديث له أصل. وأما حديث: " من كنت مولاه فعلى مولاه " فله طرق جيدة وقد أفرد ذلك أيضاً بمصنف" اهـ.
ويقول ابن السبكي: "وأما الحكم على حديث الطير بالوضع فغير جيد، ورأيت من صاحبنا الحافظ صلاح الدين ابن كيكلدي العلائي عليه كلاماً قال فيه: إن الحق في الحديث أنه ينتهي إلى درجة الحسن أو يكون ضعيفاً يحتمل ضعفه، فأما كونه ينتهي إلى درجة الموضوع من جميع طرقه فلا " اهـ.
والسبب في توقف الذهبي – الذي سبقت الإشارة إليه -، وتصحيح أو تحسين بعض العلماء لهذا الحديث أن له عن أنس – رضي الله عنه – أكثر من تسعين طريقاً حيرت العلماء وأدهشتهم.
ومع هذا فبعض المتمكنين من علم الحديث كالحافظ ابن كثير – رحمه الله – ولم تؤثر فيه كثرة الطرق ولو بلغت المليون، فإنه قد تكلم عن هذا الحديث في البداية والنهاية (7)، وأثبت أنه منكر وانتقد طرق الحديث كلها.
قال – رحمه الله -: "قال شيخنا أبو عبد الله الذهبي في جزء جمعه في هذا الحديث، بعدما أورد طرقاً متعددة نحواً مما ذكرناه. قال: ويروى هذا الحديث من وجوه باطلة عن حجاج بن يوسف وأبي عصام خالد بن عبيد". وذكر خلقاً ممن رواه، ثم قال بعد أن ذكر الجميع: "الجميع بضع وتسعون نفساً أقربها غرائب ضعيفة، وأردؤها طرق مختلفة مفتعلة، وغالبها طرق واهية".
ثم ذكر الحافظ ابن كثير جملة من هذه الطرق في الموضع السابق وقال: "فهذه طرق متعددة عن أنس بن مالك، وكل منها فيه ضعف ومقال".
أما بالنسبة لكلام الذهبي في تعقبه على الحاكم في المستدرك فهو جيد، ومن جملة ما ذكره – لأن الحاكم أورده في عدة أماكن بعدة طرق – قوله: "قلت: فيه ابن عياض لا أعرفه –أي في نقده للحديث -، ولقد كنت زماناً طويلاً أظن أن حديث الطير لم يجسر الحاكم أن يودعه مستدركه، فلما علقت هذا الكتاب رأيت الهول من الموضوعات التي فيه، فإذا حديث الطير بالنسبة إليها سماء ". أي لا شيء بالنسبة لما ذكره من سائر الموضوعات.
لكن تغير اجتهاد الذهبي في حديث الطير، فهو في تذكرة الحفاظ ذكر أنه اطلع على حديث الطير الذي انتقد الحاكم من أجله، فقال: "وجدت له بضعاً وتسعين طريقاً"، ثم قال بعد ذلك: "ومع ذلك فلا أنا بمثبته ولا بمعتقد بطلانه"، أي انه متوقف فيه.
¥