وينبغي أن يُنتبه إلى أنَّ مبحث الدلالات - في الأصل - من مباحثِ (علم المنطق)، وإدخالُه في مباحث الأسماء والصفات أمرٌ حادثٌ لا أثر له في القرون الفاضلة، ولم ينتشر بين أهل السنة إلا في العصورِ المتأخرة؛ ولذلك ينبغي على الباحث أن يراجعَ أقوال المناطقةِ في هذا المبحث قبل أن يخوض فيه، وقد قال الأخضريُّ: في (السلم المنورق):
دَلالةُ اللَّفْظِ عَلى ما وافَقَهْ
يَدْعُونَها دَلالَةَ المُطابَقَةْ
وَجُزْئِهِ تَضَمُّناً وَما لَزِمْ
فَهْوَ الْتِزامٌ إِنْ بِعَقْلٍ الْتُزِمْ
قال الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله -: «المطابقة والتّضمّن والالتزام هي في أصلها من البحوث المنطقية، مطابقة تضمّن والتزام يبحثها المناطقة في أول كتب المنطق، ونَقَلَهَا اللغويون ونقلها الأصوليون في كتبهم فأصبح الناس - ممن لم يُقْبِلْ على كتب المنطق - يستفيدونها من كتب الأصول، سيَّما أنّ أئمة أهل السنة استفادوا منها في مباحث الأسماء والصّفات كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وعدد من أئمة الدعوة، و معناها:
- المطابقة: هي دلالة اللفظ على كل معناه.
- التضمن: دلالة اللفظ على بعض معناه.
- اللزوم: دلالة اللفظ على شيء آخر يلزم لوجود هذه الصفة وجود ذلك الشيء الآخر)) اهـ. من إتحاف السائل بما في الطحاوية من مسائل.
وقد مثَّل الشيخ صالح – حفظه الله - بعد ذلك بأنَّ اسم الله «الرحيم» دال على ذات متصفة بالرحمة؛ بناءً على أنَّ دلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على كل معناه.
4 - وعلى فرض أنَّ الشيخ غير القاعدة في اصطلاحِه؛ فجعل دلالة الاسم على الذات بالمطابقة، وعلى الصفة التي اشتق منها بالتضمن، وأثبت كذلك دلالة اللزوم؛ فماذا كان؟!!
النتيجة بلا شك من هذه القاعدة تأصيلاً وتفريعاً إثبات الأسماء والصفات التي اشتُق منها الاسم والتي تلزم منه. ومعلومٌ أنَّ العبرة - غالباً - بالحقائق لا بالألفاظ. وبذلك يكون الخلافُ لفظيَّاً لا حقيقياً.
5 - ورغم ذلك كلِّه فالشيخ حافظ: لم يتفرد بهذا الكلام، بل وافقه على ذلك غيرُ واحدٍ من أهل العلم؛ كابن الوزير: حيث قال: «الفرق بين دلالة المطابقة والتضمن والالتزام: فالمطابقة هي اللغوية دونهما وهي دلالة اللفظ على معناه الموضوع له كدلالة غسل أعضاء الوضوء عليها جملة. وإن دل اللفظ على جزء المعنى فهو التضمن كدلالة آية الوضوء على غسل العين لأنها بعض الوجه وما تحت الأظفار والخاتم لأنه بعض اليد. وان دل اللفظ على لازم ما وضع له فدلالة الالتزام كدلالة آية الوضوء على وجوبه» اهـ. من إيثار الحق على الخلق.
ومنهم أيضاً الشيخ سفر الحوالي - حفظه الله - حيث قال: «فمثلاً: اسم: «الله» هذا الاسم من أسماء الله يدل على ذات الله ـ دلالة مطابقة، وهو يدل على الصفة المشتقة منه بالتضمن، وهي الألوهية. واسم القدير: يستلزم إثبات القدرة له، والحي: يستلزم إثبات الحياة له، والرحيم: يستلزم إثبات الرحمة له، فهذه دلالة تضمن. ودلالته على بقية الصفات بالالتزام، فعندما نقول: الله قدير وعليم، فهذا الاسم يدل على أن الله حي، فدلالة الاسم على صفة أخرى غير الصفة التي تشتق منه تسمى: دلالة التزام» اهـ. من شرح صوتي للعقيدة الطحاوية.
6 - ومما ينبغي أن يثير اهتمام القارئ والباحث أنَّ كتاب معارج القبول كتابٌ ذائع الصيت، قرأه كثيرٌ من أهل العلم فأثنوا عليه ودرَسوه ودرَّسوه؛ فمن منهم قال: إنَّ كلام الشيخ حافظ: في هذه المسألة ((هو في حقيقته مذهب المعتزلة))؟!
7 - وختاماً؛ فإنِّي أذكر نفسي وأمثالي من طلبة العلم المبتدئين بالتزام الأدب مع أهل العلم، لاسيما وقد قال لي أحد المبتدئين، متأثراً بكلام الشيخ محمود - حفظه الله -: ((إنَّ كلام الشيخ حافظ: راجعٌ لأنَّه توفي صغيراً)) أي أنَّه لم يكن مؤهَّلاً لمثل هذا الكلام، فسبحان الله رب العالمين.
ولنتعلَّم سوياً الأدب وحسن الظن بعلمائنا من قول الشيخ محمود - نفسهِ -: ((خطأ غير مقصود ... والشيخ لا يقصد مذهب المعتزلة)) اهـ.
وأسأل الله ـ أن يرحمنا والشيخ حافظ، وأن يبارك في الشيخ محمود عبد الرازق وأمثاله من أهل العلم، والحمد لله رب العالمين.