تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقال ? إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? فبين بذلك تعالى أن الأشياء المخلوقة تكون شيئاً بعد أن لم تكن بقوله وإرادته، وأن قولَهُ غيرُ الأشياء المخلوقة، من قِبَل أن أمرَهُ تعالى للأشياء وقوله لها: " كوني " لو كان مخلوقاً لوجب أن يكون قد خلقه بأمرٍ آخر، وذلك القول لو كان مخلوقاً لكان مخلوقاً بقول آخر، وهذا يوجب على قائله أحدَ شيئين: إما أن يكون كل قول محدث قد تقدمه قول محدث إلى ما لا نهاية له وهذا قول أهل الدهر بعينه، أو يكون ذلك القول حادثاً بغير أمره عز و جل له فبطل معنى الامتداح بذلك " (8).

قال مقيده عفا الله عنه: وقع الأشعرية هنا في تناقضين عظيمين، وذلك في مخالفتهم لأهل السنة وغيرهم في الأصلين السابقين، فإنهم لا يفرقون بين الخلق والمخلوق ولا يجعلون كلام الله تعالى متعلقاً بمشيئته، وبهذا ينقضون استدلالهم بهذه الآية على أن كلام الله غير مخلوق.

أما تناقضهم الأول فقد بينه إخوانهم الماتريدية، إذ إنهم يفرقون بين الخلق والمخلوق، بما أثبتوه من صفة التكوين، كما قال ابن القيم في النونية لما ذكر أن اختلاف الناس في القرآن راجع إلى أصلين: أولهما هل الخلق هو المخلوق أم غيره؟:

والقائلون بأنَّهُ غيرٌ له = متنازعون وهم فطائفتانِ

إحداهما قالت: قديمٌ قائمٌ = بالذات وهو كقدرة المنانِ

سموه تكويناً قديماً، قالهُ = أتباع شيخِ العالم النُّعمانِي

وخصومهم لم ينصفوا في رده = بل كابرُوهم ما أتوا ببيان (9)

أقول: لما كانوا مخالفين للأشعرية في هذا الأصل، بينوا تناقضهم في استدلالهم بهذه الآية على أن كلام الله غير مخلوق، وقولهم: إن الخلق هو المخلوق والفعل هو المفعول.

قال أبو المعين ميمون النسفي الماتريدي في كتابه تبصرة الأدلة – وهو من المراجع المهمة للماتريدية (10) – في معنى " كن ": "والأشعري ومن تابعه من متكلمي أهل الحديث، يقولون إنه كلام، وأن العالم خلق به، وإذا سلموا أن وجود العالم وتكونه حصل به؛ فكان تكويناً وتخليقاً، ومن أعطى الحقيقة ثم أنكر الاسم كان مناقضاً.

وعد المتكلمون هذا من مناقضات الأشعري، وهذا لعمري أفحش مناقضة فإنه ينفي التكوين ثم يثبته، ولو لم يكن هذا تناقضاً فلا تناقض في عالم الله!!

وكل شبهة للأشعرية تبطل بهذا. يحققه أن ما من كتاب من كتب الأشعري أو أحد أصحابه تكلموا فيه على المعتزلة في إثبات أزلية كلام الله تعالى، إلا وقد تعلقوا بهذه الآية، وقالوا: إنه تعالى أخبر أنه خلق المخلوقات بخطاب " كن "، فلو كان خطاب " كن " مخلوقاً لاحتاج إلى خطاب آخر، وكذا الثاني والثالث، إلى ما لا يتناهى، فقال: إن الكلام غير مخلوق.

وإذا كان الأمر كذلك ثبت أنهم أثبتوا لله تعالى صفة أزلية يتعلق بها حدوث العالم، وهذا هو التكوين والإيجاد والخلق عند القائلين به، وهذا ظاهر ولا محيص عنه لمن أنصف ولم يكابر " (11).

وأما تناقضهم الثاني: فيظهر بأن يقال: إن دلالة الآية على تعلق الكلام بالإرادة ظاهرة، فكيف تحتجون بهذه الآية على الجهمية، وتنفون دلالتها على تعلق الكلام بالإرادة؟ فإن كانت دالة على بطلان قولهم بخلق الكلام، فهي دالة على بطلان قولكم بعدم تعلق كلام الله تعالى بمشيئته، والله تعالى أعلم.


(1) سير أعلام النبلاء (12/ 59).
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 198).
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 198)، ونحوه في الحجة في بيان المحجة (1/ 243)، وذكر هذه الحجة الإمام ابن خزيمة أيضاً في كتاب التوحيد.
(4) خلق أفعال العباد فقرة (615)، وقد بوب لذلك أيضاً باباً في كتاب التوحيد من صحيحه.
(5) انظر: مجموع الفتاوى (5/ 528) وما بعدها.
(6) مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص483.
(7) هو القاضي أبو يعلى في رسالته: إيضاح البيان في مسألة القرآن انظر: مجموع الفتاوى (6/ 158 - 159).
(8) رسالة أهل الثغر ص68، ونحوه في التمهيد للباقلاني ص237، والاعتقاد للبيهقي ص95 - 96 ولغيرهما في غيرهما.
¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير