قالوا: وليس في ذلك حطّ من منصبه العظيم الذي أكرمه الله به؛ لأن منصب النبوة مُنصب على العلم بالأمور الدينية: من الاعتقاد في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومن الأمور الشرعية. أما إن اعتقد أن فلانا مظلوم فإذا هو ظالم، أو أن دواء معينا يشفي من مرض معين، فإذا هو لا يشفي منه، أو أن تدبيرا زراعيا أو تجاريا أو صناعيا يؤدي إلى هدف معين، فإذا هو لا يؤدي إليه، أو يؤدي إلى عكسه، أو أن تدبيرا عسكريا أو إداريا سينتج مصلحة معينة، أو يدفع ضررا معينا، فإذا هو لا يفعل، فإن ذلك الاعتقاد لا دخل له بالنبوة، بل هو يعتقده من حيث هو إنسان، له تجاربه الشخصية، وتأثراته بما سبق من الحوادث، وما سمع أو رأى من غيره؛ مما أدى إلى نتائج معينة. فكل ذلك يؤدي إلى أن يعتقد كما يعتقد غيره من البشر، ثم قد ينكشف الغطاء فإذا الأمر على خلاف ما ظن أو اعتقد.
وقد صرح بأصل هذا المذهب، دون تفاصيله: القاضي عياض، والقاضي عبد الجبار الهمداني المعتزلي والشيخ محمد أبو زهرة. وظاهر حديث "أنتم أعلم بشؤون دنياكم": أنه صلى الله عليه وسلم كغيره من الناس في ذلك، بل فيه التصريح بأن أصحاب الخبرة في صنائعهم وتجاراتهم وزراعاتهم قد يكونون أعلم منه بدقائقها، إلا أن القاضي عياضاً أوجب أن يكون الخطأ في ذلك نادراً، لا كثيرا يؤذن بالبله والغفلة.
ويحتج لهذا المذهب بأدلة، منها:
أولا: حديث تأبير النخل في صحيح مسلم، "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فإذا هم يأبرون النخل -يقول: يلقحون النخل- فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه. قال لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا. فتركوه، فنفضت، فذكروا ذلك له، فقال: إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر". وشبيه به قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب".
ثانيا: إن النبي قال: "إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي. ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار".
واختار د. محمد سليمان الأشقر المذهب القائل بأن أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله الدنيوية ليست تشريعًا، واستدل لذلك بالأدلة الآتية:
ا- قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) وقوله: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا)، وقد تكرر التأكيد على بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم. بخلاف أمور الشريعة، فإن كلامه فيها لا يستقر فيه خطأ، كما هو ثابت في علم أصول الفقه. فالأصل استمرار حاله في أمور الدنيا كما كان قبل النبوة، لما لم يدل على انتقاله عن ذلك دليل. وقد أكدت السنة النبوية ما بينه القرآن من ذلك. كما يأتي.
2 - قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا بشر، فإذا أمرتكم بأمر دينكم فاقبلوه، وإذا أمرتكم بشيء من دنياكم فإنما أنا بشر"، وفي رواية: "أنتم أعلم بدنياكم". وبهذا الحديث، برواياته المختلفة، يؤصل النبي صلى الله عليه وسلم أصلا عظيما في الشريعة، ويبينه لنا، ويشعرنا بأن بعض أفراد الأمة قد يكونون أحيانا أعلم منه صلى الله عليه وسلم بما يتقنونه من أمور الدنيا، والمقصود أهل الخبرة في كل فن وصناعة، وأنه لا داعي شرعا لالتفاتهم إلى ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من ذلك إلا كما يلتفتون إلى قول غيره من الناس.
3 - إن الحباب بن المنذر، قال في سياق غزوة بدر: يا رسول الله: أرأيت هذا المنزل، أمنزل أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض حتى تأتي أدنى ماء من القوم، فننزله، ثم نغور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماء، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي.
وقالت عائشة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقم عند آخر عمره، أو في آخر عمره. فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه، فينعتون له الأنعات، وكنت أعالجها له".
¥