[خلاف الفقهاء في مسألة الرجوع عن الإقرار.]
ـ[عبدالله المزروع]ــــــــ[12 - 07 - 07, 08:58 م]ـ
خلاف الفقهاء في مسألة الرجوع عن الإقرار
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد:
فهذا جزء في الكلام عن مسألة الرجوع عن الإقرار، وهي من المسائل التي وقع فيها الخلاف قديماً وحديثاً، ودرئت بها كثيرٌ من الحدود، ولم أجد – حسب اطلاعي [1] – من حرَّرَ أقوال العلماء في هذه المسألة، وخرَّج الأحاديث الواردة في الباب مما دفعني إلى جَمْعِ هذا الجزء، واللهَ أسأل أن يوفقني فيه إلى الصواب.
الرجوع عن الإقرار فيه عِدَّةُ مسائل:
المسألة الأولى: الرجوع عن الإقرار في الحدود.
المسألة الثانية: الرجوع عن الإقرار في التعازير.
المسألة الثالثة: الرجوع عن الإقرار في حقوق الآدميين.
فأما المسألة الأولى وهي: الرجوع عن الإقرار في الحدود.
صورة المسألة: إذا أقرَّ إنسان بالتهمة الموجهة إليه بعد أن قبض عليه إما تلبساً بها تامة أو غير تامة، دون أن يثبت ذلك ببينةٍ (الشهود)، أو يأتي تائباً يريد التطهير. [2]
فقد اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
القول الأول: أن رجوع المُقِرِّ عن إقراره غير مقبولٍ في الحدود مطلقاً، ويقام عليه الحدُّ بناءً على إقراره الأول، وهذا هو المروي عن ابن أبي ليلى [3]، وسعيد بن جبير [4]، والحسن البصري [5]، وهو قولٌ للإمام أحمد [6]،
واختار هذا القول: داود بن علي [7]، وابن حزمٍ [8]، وشيخ الإسلام ابن تيمية [9]، وتلميذه ابن القيم [10]، وسماحة الشيخ عبد العزيز ابن باز [11]، والعلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين [12] – رحمهم الله –.
أدلتهم:
الدليل الأول: أنَّه وردَ في حديث ماعزٍ – رضي الله عنه – في الصحيحين وغيرهما أنه هرب عندما رُجِمَ ومع ذلك تَبِعَهُ الصحابة – رضوان الله عليهم – ورجموه حتى مات؛ فلم يُنْكِر عليهم النبي – صلى الله عليه وسلم – [13].
يرد عليه:
أنه قد ورد في بعض الروايات: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال للصحابة: " هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه " [14].
يجاب عن إيرادهم:
1 – بأنَّ هذه الزيادة: لا تصح، وسيأتي تفصيل ذلك في الملحق الخاص بطرق هذه الزيادة والحكم عليها.
2 – على التسليم بصحة هذه الزيادة: فإنَّ هروب ماعزٍ – رضي الله عنه – لا يدلُّ على رجوعه عن إقراره؛ بل قد يكون رجع عن طلبه إقامة الحد ويكتفي بتوبته، ولهذا قال النبي – صلى الله عليه وسلم – " هلا تركتموه يتوب، فيتوب الله عليه " ولم يقل: هلا تركتموه يرجع عن إقراره.
3 – أنَّ قولكم: (يتوب) دليلٌ على أنه ارتكب ما أقرَّ به؛ لأن التوبة لا تكون إلا من ذنب – وهو هنا: الزنا – فلا نترك إقامة حدٍّ لاحتمالات قد تثبت أو لا تثبت، و " إقامة حدٍّ من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله " [15].
4 – أنه جاء في بعض روايات الحديث ما يوضح المعنى من فوله " هلا تركتموه ... " ففي حديث جابر قال في آخره: " فهلا تركتموه، وجئتموني به " ليستثبتَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منه؛ فأما لترك الحدِّ فلا [16].
وهذا فهمُ صحابيٍ ممن حضر الحادثة، وفهمه مقدمٌ على فَهْمِ غيره!
5 – أنه لو قُبِلَ رجوعه للزم قاتله من الصحابة ديته، كونه قُتِلَ بغيرِ حقٍّ، أو لوداه النبي – صلى الله عليه وسلم – من عند نفسه.
يرد على الجواب الأخير: أنه إنما لم يجب دية ماعز على الذين قتلوه بعد هربه لأمور منها: أن هربه ليس صريحاً في رجوعه عن إقراره، أو أنَّ هذا الحكم لم ينزل بَعْدُ.
يجاب عنه: بأنَّ النبي – صلى الله عليه وسلم – لا يمكن أن يترك دمه يضيع هَدْرَاً؛ فلو كان الصحابة معذورين لوداه النبي – صلى الله عليه وسلم – من عنده؛ كما في حديث القسامة.
الدليل الثاني: أنَّ الله – سبحانه وتعالى – قال في كتابه: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم " [النساء: 135] فإذا شَهِدَ على نفسه بالزنا فقد صدق عليه وصف الزاني، وقد قال تعالى: " الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحدٍ منهما مائة جلدة " [النور: 2] فكيف نرفع هذا الحكم الذي أمرَ اللهُ به معلقاً على وصفٍ ثبتَ بإقرار من اتصف به؟! فإذا ثبت الوصف ثبت الحدُّ.
¥