1. جعل العقل دليلاً أعطاه القدرة على التحسين والتقبيح وجعل الوحي مصدقاً للعقل في حكمه، ونحن لا يمكننا أن نوافق القاضي عبدالجبار في هذا، ذلك أن العقل عبارة في أساسه الفطري عن نسق من المبادئ المنطقية) الاتساق ـ السببية) والعمليات الإجرائية (التحليل ـ التركيب والتجريد ـ والتشخيص) فحكمه على الأشياء سوف ينبع من خلال خبرته المعرفية التي اكتسبها، أو من خلال وعيه بالتناقضات بين الفكر والواقع، فالحكم على الأشياء بالقبح والحسن مرتبط بالتصور الكلي الذي يعطي الأشياء دلالاتها، وتصور الأشياء منبثق عن الرؤية الكلية للوجود، فالوحي هنا هو الذي يضبط هذا التصور لا العقل.
2. لكنه في المقابل قال: (إن الكتاب هو الأصل من حيث إن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام)، وهذا الكلام منه صحيح، ولو أنه اعتمده لما احتاج للقول بالتحسين والتقبيح العقلي فقط.
في المقابل نلحظ من كلام الجويني:
1. أنه جرد العقل من أي قدرة على على تمييز الحسن والقبيح، وهذا ما لا نلحظه في كتاب الله تعالى، فالقرآن الكريم نبه على تعلق قبول الوحي بحسن السلوك (= أي علق استجابة الوحي على الحسن الخُلقي)، قال تعالى:} فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك {.
كما أشار القرآن إلى التوافق بين الهدي الإلهي (=الوحي) والميول الفطرية التي جبل الناس عليها، وهذه الميول الفطرية نتاج تفاعل الإنسان المتجول بعقله في الشهود الطبيعي والاجتماعي قال تعالى} فأقم وجهك للدين حنيفاً # فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لكلمات الله ذلك الدين القيم {.
2. والجويني بهذا النقل يعبر عن طريقة أهل الحديث النافرة بطبعها عن المقدمات العقلية المستندة على مرجعية الوحي، وهذا هو بالضبط ما مكن لمئات إن لم نقل آلاف الأحاديث غير الصحيحة بالمرور، فهذا الموقف الأشعري المعبر عن أهل الحديث عموماً ينقل بوضوح توجس أهل الحديث من استعمال العقل في فهم النص.
إذن كلا الفريقين لم يحسن التعبير عن الفكرة بشكل دقيق، فهم ما بين إفراط وتفريط، ونستطيع القول: إن العقل البشري بما أودع الله فيه من إمكانيات قادر على تبيين الحسن من القبيح، لكنه يحتاج لذلك إلى اعتماد مقدمات مستمدة من إطار مرجعي يتمثل في الوحي، أي أنه عبارة عن عقل نحتته نصوص الوحي.
تطبيقات:
1. نقل الدم:
مسألة نقل الدم من المسائل الحديثة التي ناقشها الفقهاء المعاصرون، حيث كان هذا الأمر متعذراً بل غير متصور، ومع التقدم العلمي الهائل في مجال الطب أصبح الأمر ممكناً وبفضل ذلك أمكن علاج حالات النزيف التي تؤدي إلى الوفاة في كثير من الأحيان.
عندما طرحت المسألة على الفقهاء اختلفوا فيها:
- فمنهم من قال بالتحريم استناداً إلى أن الدم نجس لا يجوز الانتفاع به استناداً إلى قوله تعالى} حرمت عليكم الميتة والدم ... {وقوله} قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقاً أهل لغير الله به {.
وهذه النظرة تمثل النظرة النصوصية في أجلى صورها.
- وفريق آخر رأى التعويل على قضية إنجاء النفس وإحيائها، وكانوا قلة قليلة في بداية طرح المسألة، وهؤلاء في أكثر الأحيان كانوا محكومين بضغط الواقع وإلا فالمنهجية النصوصية تلك هي الأقرب إلى تفكيرهم.
لكن يحق لنا التساؤل: لنتساءل كيف توصل الفريق الثاني إلى جواز نقل الدم وقال بأن فيه إنجاء للنفس من الهلكة واعتمد الإطار المرجعي في قول الله تعالى} ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً {؟ الجواب يكمن في (العقل الإنساني) الذي تجول في دائرة الوجود الطبيعي واكتشف بعقله فصائل الدم وما يصلح لبعضها البعض وآلية نقلها فوصل إلى هذه النتيجة، عندئذ قال من قال من الفقهاء بجواز نقل الدم، وإلا لن تجد الفقيه إلا ذلك الفقيه الذي يقول بنجاسة الدم ويمنع نقله. فمنطلق العقل الوحي الالاهي.
وهلم قدماً في فروع هذه المسألة:
- الفقهاء القائلون بجواز نقل الدم قالوا بحرمة النقل إذا كان أحد الذين تجرى لهم عملية النقل أو كلاهما يحمل مرضاً في دمه يضر بالآخر، نتساءل أيضاً عن المستند الشرعي لهذا الحكم؟.
¥