وقوله {أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} أي: من غير ملتكم.
وهذا يدل على جواز استشهادهم في الوصية في السفر إذا لم يوجد غيرهم.
قال ابن قدامة: (وهذا نص الكتاب، وقد قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه).
وقال أيضاً: (قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر الماضين يعني الآية التي في سورة المائدة، وممن قاله: شريح والنخعي والأوزاعي ويحي بن حمزة، وقضى بذلك ابن مسعود وأبو موسى رضي الله عنهما).
وأما دليلهم من السنة فما يلي:
1 - ما رواه أبو داود في سننه: حدثنا زياد بن أيوب ثنا هشيم أخبرنا زكريا عن الشعبي [أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقاء هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما].
وجه الدلالة: أن أبا موسى رضي الله عنه قضى بقبول شهادتهما على الوجه المذكور، ورفع فعله على النبي صلى الله عليه وسلم، فدل على أن ذلك القضاء من السنة.
وفي قضائه بذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم دليل على ان الحكم غير منسوخ.
3 - ما روى ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن زيد فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وإن الجام لصاحبهم فنزلت فيهم {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم}.
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر شهادة الكتابيين، ولم يردها إبتداءً، فدل ذلك على جوازها، واعتبارها، ما لم يعثر على خيانة الشهود وكذبهم فيها.
المبحث الرابع: (المناقشة):
أولاً: مناقشة أصحاب القول الأول وهم الجمهور لأدلة القول الثاني:
1 - إن الآية التي تدل على هذا منسوخة بآية الدين، وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه} الآية.
إلى قوله {ممن ترضون من الشهداء}، والكافر غير مرضي فلا تجوز شهادته لأن استشهاده مخالف لهذه الآية لنزولها بعد آية الوصية.
والدليل على النسخ:
ما رواه ابن جرير رحمه الله بسنده عن زيد بن أسلم رضي الله عنه أنه قال: [كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام، وذلك في أول الإسلام، والأرض حرب، والناس كفار، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة، وكان الناس يتوارثون بالوصية، ثم نسخت الوصية، وفرضت الفرائض، وعمل المسلمون بها] اهـ.
والقول بأن هذه الآية منسوخة مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2 - أن آية الوصية لا تدل على شهادة غير المسلمين على المسلمين، وذلك أن معنى قوله: {شهادة بينكم} أي: الأيمان بدليل أنه لم يرد في الشرع إيجاب اليمين على الشاهد، فيكون المراد أيمان الوصي.
3 - أن المراد بقوله تعالى {أو آخران من غيركم} أي: من غير قبيلتكم وعشيرتكم، وهو قول الحسن البصري وعكرمة والزهري رحمهم الله.
وليس المراد من غير ملتكم، مما يدل على عدم جواز شهادة غير المسلم على المسلم.
وتوضيح هذا ما ذكره الإمام القرطبي بقوله: (فوجب من هذا أن يكون معنى قوله {أو آخران من غيركم} أي: عدلان، والكفار ليسوا عدولاً، وعلى هذا يصح قول من قال: {من غيركم} من غير عشيرتكم من المسلمين) اهـ.
4 - أن الآية المراد بها تحمل الشهادة دون الأداء.
وأجاب أصحاب المذهب الثاني وهم الحنابلة ومن وافقهم عن ذلك فقالوا:
1 - أن حمل الآية على أنه أراد من غير عشيرتكم أو قبيلتكم لا يصح من وجهين:
الوجه الأول:
أن الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين وكانا وقتها نصرانيين.
الوجه الثاني:
أن الله خاطب المؤمنين في صدر الآية، ثم قال لهم: {من غيركم} وغير المؤمنين هم الكافرون.
¥