فيكون هنا كأن في الحديث إيماءً إلى? بيان سبب الفطر لا إلى? الحكم بكون هذين الرجلين قد أفطرا، وهـ?ذا هو ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين عن شيخه ابن تيمية رحمه الله، يقول: إن المراد بيان أن هـ?ذا الفعل مفطّر، أما كون هذين الرجلين يفطران فهـ?ذا يعلم من أدلة الكتاب الأخرى، وهـ?ذا الحمل وارد؛ لأن لدينا نصوصا عامة صريحة واضحة في أن الجاهل معذور بجهله، فيجب أن تُحمل هـ?ذه النصوص المتشابهة على النصوص المحكمة.
وهـ?ذه القاعدة أنا أريد منكم جميعا أن تفهموها: أنّ النصوص المتشابهة المحتملة لأمرين أحدهما مما تقره القواعد العامة، والثاني مما لا تقره، فيجب أن يُحمل على القواعد العامة إذا كان الحمل ممكنا، أما إذا لم يكن ممكنا، فإنه يبقى هـ?ذا مخصصا للعموم ويسقط الحكم فيه بخصوصه لا يتعداه إلى? غيره.
فلو فُرض أننا لم نجد محملا لهذا الحديث، قلنا: نخصه بالحالة الواقعة فقط، ونقول: من أفطر بالحجامة ولو جاهلا لأنها تفطّر فعليه القضاء؛ يكون مفطرا، وفي غيرها لا قضاء عليه.
الجمع بينهما يقول العلماء: أن فعل المأمور المطلوب إيجاد هـ?ذا الشيء، ترك المحظور المطلوب التخلي عنه، وما دام هـ?ذا الإنسان باشر المحظور جاهلا أو ناسيا فما عليه شيء، والصحيح أن الأكل والشرب بالنسبة للصائم من باب ترك المحظور.
إذن زال الإشكال، ما دام حملناه على الجنس أو النوع أو على بيان السبب، فما الحكم إذن بالنسبة لجعفر وحاجمه؟ حسب القواعد العامة أنهما لا فطر عليهما؛ لأنهما لا يعلمان، إذ يبعد من حالهما أن يعلمان أن ذلك محرم ثم يقدما عليه.
ويستفاد من هـ?ذا الحديث إذا صح جواز النسخ في الأحكام؛ يعني أن الله عز وجل يغير الأحكام من حكم إلى آخر، وهـ?ذا ثابت في القرآن والسنة والإجماع.
إلا أن أبا مسلم الأصبهاني رحمه الله يقول: إن النسخ ليس بجائز. ويحمل ما ورد على ذلك على أنه تخصيص، قال: لأن الحكم الأصل أن يثبت في جميع الزمان، من أول ما شرع إلى? يوم القيامة، إذا نسخ فمعناه رفع الحكم فيما بقي من زمن فيكون ذلك تخصيصا باعتبار الزمان لا باعتبار آحاد العاملين.
فمثلا إذا كان هـ?ذا الحكم ?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ? [المائدة:03]، إلى? متى؟ إلى? يوم القيامة، جاء حكم برفع هـ?ذا التحريم مثلا نقول: الآن بقية الزمن الذي بعد النسخ حصل فيه التخصيص.
والحقيقة أن هـ?ذا مع مذهب الجمهور خلاف لفظي، وكان الواجب أن نقول: إنه نسخ. كما قال الله عز وجل.
أما اليهود فيذكر عنهم أنهم يمنعون النسخ، ولهذا يكذبون بعيسى? ومحمدا، ولكن الله رد عليهم بقوله: ?كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ? [آل عمران:93]، إذن ففيه نسخ.
وعلى كل حال النسخ ثابت؛ لكن إذا قال قائل: ما هي الحكمة من النسخ؟ إن كان الخير في الناسخ فلماذا لم يثبت من الأول، وإن كان الخير في المنسوخ فلماذا نُسخ؟
فالجواب أن الخير أمر نسبي، قد يكون الشيء خيرا في هـ?ذا الزمن وغيره خير منه في زمن آخر، وحينئذ يكون الخير في النسخ والمنسوخ، المنسوخ وقت بقاء حكمه هو خير، وبعد أن نُسخ فالخير في بدله، وحينئذ لا يقال: إن قولكم بالنسخ قدح في علم الله أو في حكمته.
لأن اليهود يقولون: إذا جوزتم النسخ جَوَّزتم البداءة على الله، وهو العلم بعد الجهل.
نقول: قاتلكم الله، أتنكرون ما ثبت، وما دل العقل على إمكانه، وأنتم تقولون: يد الله مغلولة والله فقير. تناقض.
فنقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليم بلا شك، وعلمه سابق على وجود الأشياء، وحكيم وحكمته من صفاته الأزلية الأبدية؛ لكن يعلم عز وجل أن هـ?ذا الحكم خير في زمنه، وأن بدله خير في زمنه، وهـ?ذا شيء معلوم.
إذن نقول: في هـ?ذا الحديث دليل على جواز النسخ وهو ثابت في القرآن لقوله تعالى?: ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا? [البقرة:106]، وفي قوله تعالى?: ?فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ? [البقرة:187]، وقبل الآن ممنوع.
¥