وإنما كان الغنم خير مال المسلم – حينئذ -؛ لأن المعتزل عن الناس بالغنم يأكل من لحومها ونتاجها ويشرب من ألبانها ويستمتع بأصوافها باللبس وغيره، وهي ترعى الكلأ في الجبال وترد المياه؛ وهذه المنافع والمرافق لا توجد في غير الغنم؛ ولهذا قال: " يتبع بها شعف الجبال " وهي رءوسها وأعاليها؛ فإنها تعصم من لجأ إليها من عدو. و" مواقع القطر " لأنه يجد فيها الكلأ والماء فيشرب منها ويسقي غنمه وترعى غنمه من الكلأ. وفي " مسند البزار "، عن مخول البهزي سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " سيأتي على الناس زمان فيه غنم بين السجدتين (10) تأكل من الشجر وترد الماء، يأكل صاحبها من رسلها ويشرب من ألبانها ويلبس من أشعارها – أو قال من أصوافها _، والفتن ترتكس بين جراثيم العرب " (11).
وروي هذا المعنى عن عبادة بن الصامت من قوله.
وواحد الجراثيم: جرثومة؛ وهي أصل الشيء.
وفي هذا دلالة ‘على أن من خرج من الأمصار فإنه يخرج معه بزاد وما يقتات منه.
وقوله: يفر بدينه من الفتن " يعني:
يهرب خشية على دينه من الوقوع في الفتن؛
فإن من خالط الفتن، وأهل القتال على الملك لم يسلم دينه من الإثم إما بقتل معصوم أو أخذ مال معصوم أو المساعدة على ذلك بقول و نحوه
وكذلك لو غلب على الناس من يدعوهم إلى الدخول في كفر أو معصية حسن الفرار منه.
وقد مدح الله من فر بدينه خشية الفتنة عليه فقال – حكاية عن أصحاب الكهف _ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ; [الكهف: 16].
وروى عروة، عن كرز الخزاعي قال: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي: هل لهذا الإسلام من منتهى؟ قال: " من يرد الله به خيرا من عرب أو عجم أدخله عليه " قال: ثم ماذا؟ قال: " تقع فتن كالظلل " قال: كلا يا نبي الله، قال: " بلى، والذي نفسي بيده لتعودون فيها أساود صبا يضرب بعضكم رقاب بعض وخير الناس يومئذ: رجل يتقي ربه ويدع الناس من شره " (12).
الأساود: جمع أسود، وهو أخبث الحيات وأعظمها.
والصب: جمع صبوب، على أن أصله: صبب كرسول ورسل، ثم خفف كرسل؛ وذلك أن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع ثم انصب على الملدوغ، ويروى " صي " على وزن حبلى "
وفي "الصحيحين " عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له الفتن فقال له: فما تأمرني يا رسول الله إن أدركني ذلك؟ قال: " تلزم جماعة المسلمين وإمامهم " قال: فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال: " فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك " (13).
وقد اعتزل جماعة من أصحابه في الفتن في البوادي.
وقال الإمام أحمد: إذا كانت الفتنة فلا بأس أن يعتزل الرجل حيث شاء، فأما إذا لم يكن فتنة فالأمصار خير.
فأما سكنى البوادي على وجه العبادة وطلب السياحة والعزلة فمنهي عنه، كما في الترمذي و " صحيح الحاكم "، عن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعب فيه عيينه من ماء عذب فأعجبه طيبه وحسنه فقال: لو اعتزلت الناس وأقمت في هذا الشعب ولا أفعل حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأمره فقال: " لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في أهله ستين عاما " (14).
وخرج الإمام أحمد نحوه من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لم أبعث باليهودية ولا النصرانية؛ ولكني بعثت بالحنيفية السمحة " (15).
وذكر باقيه بمعناه.
وخرج أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلا قال: يا رسول الله! ايذن لي بالسياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن سياحة أمتي: الجهاد في سبيل الله " (16).
وفي " المسند " عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " عليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام " (17).
وفي مراسيل طاوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا رهبانية في الإسلام ولا سياحة ".
وفي المعنى مراسيل أخر متعددة.
قال الإمام أحمد: ليست السياحة من الإسلام في شيئ ولا من فعل النبيين ولا الصالحين. والسياحة على هذا الوجه قد فعلها طوائف ممن ينسب على عبادة واجتهاد بغير علم، ومنهم من رجع لما عرف ذلك.
¥