وقد كان في زمن ابن مسعود من المتعبدين خرجوا إلى ظاهر الكوفة وبنوا مسجدا يتعبدون فيه، منهم: عمرو بن هتبة، ومفضل العجلي، فخرج إليهم ابن مسعود وردهم على الكوفة وهدم مسجدهم وقال: إما أن تكونوا أهدى من أصحاب محمد أو تكونوا متمسكين بذنب الضلالة. وإسناده هذا صحيح عن الشعبي أنه حكى ذلك.
وقد رأى عبد الله بن غالب الحداني رجلا في فلاة رزقه لا يدري من أين يأتيه فقال له: إن هذه الأمة لم تؤمر بهذا؛ إنما أمرت بالجمعة والجماعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز، فقبل منه وانتقل من ساعته إلى قرية فيها هذا كله. خرج حكايته ابن أبي الدنيا.
وروي نحو هذه الحكاية – أيضا -، عن أبي غالب صاحب أبي أمامة الباهلي. خرجها حميد بن زنجوية.
وكذلك سكنى البوادي لتنمية المواشي والأموال – كما جرى لثعلبة في ماله – فمذموم – أيضا.
وفي " سنن ابن ماجه "، عن أبي هريرة مرفوعا: " ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يشهدها وتجيء الجمعة فلا يشهدها (18) حتى يطبع على قلبه " (19).
وخرجه الخلال من حديث جابر بمعناه (20) – أيضا.
وخرج حميد بن زنجويه من رواية ابن لهيعه: ثنا عمر (21) مولى غفرة أنه سمع ثعلبة بن أبي مالك الأنصاري يقول: قال حارثة بن النعمان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يخرج الرجل في حاشية القرية في غنيمة يشهد الصلوات ويؤب إلى أهله إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال: لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى ملأ من هذه، فيرتفع حتى لا يشهد من الصلوات إلا الجمعة حتى إذا أكل ما حوله وتعذرت عليه الأرض قال: لو ارتفعت إلى ردعة هي أعفى كل أمن هذه فيرتفع حتى لا يشهد جمعة ولا يدري متى الجمعة حتى يطبع الله على قلبه ". وخرجه الإمام أحمد بمعناه (22).
وفي " سنن أبي داود " والترمذي وغيرهما، عن أبي هريرة (23)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من سكن البادية جفا ".
وقال ابن مسعود في الذي يعود أعرابيا بعد هجرته: إنه ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي " الصحيحين " (24) أن سلمة بن الأكوع قال: أذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في البدو.وفي رواية للبخاري أن سلمة لما قتل عثمان خرج إلى الربزة فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال نزل المدينة (25).
وفي " المسند " أن سلمة قدم المدينة فقيل له: ارتددت عن هجرتك يا سلمة؟ فقال: معاذ الله إني في إذن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ابدوا يا أسلم، فتنسموا الرياح واسكنوا الشعاب " فقالوا: يا رسول الله! إنا نخاف أن يضرنا ذلك في هجرتنا، قال: " أنتم مهاجرون حيث ما كنتم " (26).
وفي الطبراني، عن ابن عمر أنه قيل له: يا أبا عبد الرحمن! قد أعشبت القفار فلو ابتعت أعنزا فتنزهت تصح، فقال: لم يؤذن لأحد منا في البداء غير أسلم " (27).
وأسلم: هي: قبيلة سلمة بن الأكوع.
وقد ترخص كثير من الصحابة من المهاجرين وغيرهم في سكنى البادية، كسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد، فإنهما لزما منزلهما بالعقيق فلم يكونا يأتيان المدينة في جمع ولا غيرها حتى لحقا بالله عز وجل. خرجه بن أبي الدنيا في كتاب " العزلة ".
وكان أبو هريرة ينزل بالشجرة وهي ذو الحليفة. وفي " صحيح البخاري "، عن عطاء قال: ذهبت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة بثبير فقالت لنا: انقطعت الهجرة منذ (28) فتح الله على نبيه صلى الله عليه وسلم مكة (29).
وفي رواية له: قال: فسألنا عن الهجرة، فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه على الله ورسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء؛ ولكن جهاد ونية " (30).
وهذا يشعر بأنها إنما كانت تبدو، لاعتقادها انقطاع الهجرة بالفتح.
وكان أنس بن مالك يسكن بقصره خارج البصرة، وكان ربما شهد الجمعة وربما لم يشهدها.
وقد نص أحمد على كراهة المقام بقرية لا يقام فيها الجمعة وإن أقيمت فيها الجماعة.
وقد يحمل ذلك على من كان بمصر جامع يجمع فيه، ثم تركه وأقام بمكان لا جمعة فيه.
¥