قال علي بن محمد القصري: قلت للحلبي: هذه موعظة سري لك، فعظني أنت. فقال: يا أخي، أحب الأعمال إلى الله ما أصدر إليه من قلب زاهد في الدنيا، فازهد في الدنيا يحبك الله. ثم أنشأ يقول:
أنت في دار شتات
فتأهب لشتاتك
واجعل الدنيا كيوم
صمته عن شهواتك
واجعل الفطر إذا ما
صمته يوم وفاتك
قال ابن خرزاد: فقلت لعلي: هذه موعظة الحلبي لك، فعظني أنت. فقال لي: احفظ وقتك واسخ بنفسك لله عز وجل، وانزع قيمة الأشياء عن قلبك يصف لك بذلك سرك، ويزك به ذكرك. ثم أنشدني:
حياتك أنفاس تعد فكلما
مضى نفس منها انتقضت به جزاء
فتصبح في نقص وتمسي بمثله
وما لك معقول تحس به زرءا
يميتك ما يحييك في كل ساعة
ويحدوك حاد ما يريد بك الهزءا
قال أبو محمد: قلت لأحمد: هذه موعظة علي لك، فعظني. فقال: يا أخي، عليك بلزوم الطاعة، وإياك أن تبرح باب القناعة، وأصلح مثواك، ولا تؤثر هواك، ولا تبع آخرتك بدنياك، واشتغل بما يعنيك بترك ما لا يعنيك. ثم أنشدني:
ندمت على ما كان مني ندامة
ومن يتبع ما تشتهي النفس يندم
فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم
ستلقون ربا عادلا ليس يظلم
فليس لمغرور بدنياه زاجر
سيندم إن زلت به النعل فاعلم
قال القاضي أبو محمد بن رامين فقلت لأبي محمد: هذه موعظة أحمد لك، فعظني أنت. فقال: أعلم، رحمك الله أن الله عز وجل ينزل العبيد حيث نزلت قلوبهم بهمومها، فانظر أين أنزلت قلبك، واعلم أنه تقرب القلوب على حسب ما قرب إليها، فانظر من القريب قلبك. وأنشدني:
قلوب رجال في الحجاب نزول
وأرواحهم فيما هناك حلول
بروح نعيم الأنس في عز قربه
بإفراد توحيد المليك تحول
لهم بفناء القرب من محض بره
عوائد بذل خطبهن جليل
قال الحافظ أبو بكر الخطيب: فقلت للقاض أبي محمد بن رامين هذه موعظة الحميدي لك، فعظني. فقال: اتق الله، وثق به ولا تتهمه؛ فإن اختياره لك خير من اختيارك لنفسك. وأنشدني:
اتخذ الله صاحبا
وذر الناس جانبا
جرب الناس كيف شئت
تجدهم عقاربا
قال أبو الفرج غيث الصوري: فقلت للخطيب البغدادي: هذه موعظة ابن رامين لك، فعظني أنت. فقال احذر نفسك التي هي أعدى أعدائك أن تتابعها على هواها، فذاك أعضل دائك، واستشعر الخوف من الله بخلافها، وكرر على قلبك ذكر نعوتها وأوصافها، فإنها الأمارة بالسوء والفحشاء، والموردة من أطاعها موارد العطب والبلاء، واعمد في جميع أمورك إلى تحري الصدق، ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله، وقد ضمن الله لمن خالف هواه أن يجعل دار الخلد قراره ومأواه. ثم أنشد لنفسه:
إن كنت تبغي الرشاد محضا
في أمر دنياك والمعاد
فخالف النفس في هواها
إن الهوى جامع
قال الحافظ بن عساكر: المحفوظ أن إبراهيم بن أدهم توفي سنة ثنتين وستين ومائة. وقال غيره: سنة إحدى. وقيل: سنة ثلاث. والصحيح ما قاله ابن عساكر، كما ذكرنا. لله الحمد.
وذكروا أنه توفي بجزيرة من جزائر بحر الروم وهو مرابط، وأنه ذهب إلى الخلاء ليلة وفاته نحوا من عشرين مرة، وكل مرة يجدد الوضوء بعدها، فلما غشيه الموت قال: أوتروا لي قوسي. وقبض على القوس، ومات وهو كذلك، رحمه الله، وأكرم مثواه.
وقد قال أبو سعيد بن الأعرابي: حدثنا محمد بن علي بن زيد الصائغ قال: سمعت الشافعي يقول: سمعت السري بن حيان يقول - وكان سفيان معجبا به -:
أجاعتهم الدنيا فجاعوا ولم يزل
كذلك ذو التقوى عن العيش ملجما
أخو طيء داود منهم ومسعر
ومنهم وهيب والغريب ابن أدهما
وفي ابن سعيد قدوة البر والنهي
وفي الوارث الفاروق صدقا مقدما
وحسبك منهم بالفضيل مع ابنه
ويوسف إن لم يأل أن يتسلما
أولئك أصحابي, وأهل مودتي
فصلي عليهم ذو الجلال وسلما
فما ضر ذا التقوى نصال أسنة
وما زال ذو التقوى أعز وأكرما
وما زالت التقوى تريك على الفتى
إذا محض التقوى من العز ميسما
وروى البخاري في كتاب "الأدب" عن إبراهيم بن أدهم، وأخرج له الترمذي في "جامعه" حديثا معلقا في المسح على الخفين.
(البداية والنهاية > لابن كثير الجزء العاشر)