وقد ذكر النووي (ت 676 هـ)، اتفاق العلماء على النهي عن السؤال إذا لم تكن ضرورة، ثم قال: ((واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين أصحهما أنها حرام؛ لظاهر الأحاديث والثاني حلال مع الكراهية بثلاثة شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول؛ فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق)) ([163]).
وإذا علم المسلم أن الغني القادر الذي بيده الخير كله هو الله I، تربى على الأنفة والاستغناء عن المخلوقين، وعلم أن السبيل الوحيد إلى ذلك هو التعلق بالله تعالى والتوكل عليه، وعبادته والالتجاء إليه، مع الأخذ بأسباب الجد والعمل، وبذلك يحفظ المسلم ماء وجهه من التذلل والسؤال، وخفض الأكف والانكسار للأشخاص مهما كانوا، فيحفظ كرامته، وتبقى له عزته ومكانته.
المبحث السادس
في قوله e : ( وإذا استعنت فاستعن بالله)
الاستعانة طلب العون من الله تعالى، بلسان المقال، كأن تقول، عند شروعك بالعمل: اللهم أعني، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، أو بلسان الحال، وهي أن تشعر بقلبك أنك محتاج إلى الله تعالى أن يعينك على هذا العمل، وأنه إن وكلك إلى نفسك وكلك إلى ضعف وعجز، أو طلب العون بهما جميعاً، والغالب أن من استعان بلسان المقال فقد استعان بلسان الحال ([164]).
فتجب الاستعانة بالله تعالى على تحمل الطاعات، وترك المنهيات، كما تجب الاستعانة به سبحانه على الصبر على المقدورات؛ فإن العبد عاجز عن الاستقلال بنفسه في الإتيان بهذه الأمور، ولا بد له من طلب الإعانة من ربه I، ولا معين للعبد على مصالح دينه ودنياه إلا الله U، فمن أعانه الله فهو المعان، ومن فرط في حق الله تعالى، لم يعنه الله، فهو المخذول.
يذكر ابن كثير (ت 774 هـ) أن الدين كله يرجع إلى العبادة والاستعانة، فالعبادة تبرؤ من الشرك، والاستعانة تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله U، وهذا المعنى في غير آية من القرآن ([165])، مثال ذلك قوله تعالى:] فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [([166])، وقوله تعالى:] قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [([167])، وقوله:] رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [([168])، وقوله:] وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [([169])، ونحو ذلك من الآيات.
ولهذا أشار الإمام محمد بن عبد الوهاب (ت 1206 هـ)، أن معنى الاستعانة: ((سؤال الله الإعانة وهو التوكل والتبري من الحول والقوة)) ([170])
ويعرف أحد العلماء الاستعانة بقوله: ((والاستعانة هي الاعتماد على الله تعالى، في جلب المنافع، ودفع المضار، مع الثقة به في تحصيل ذلك)) ([171])
ويؤكد هذا التعريف قوله تعالى:) إياك نعبد وإياك نستعين ([172]) (
هذه الآية العظيمة التي يتلوها المسلم في كل ركعة من ركعات صلواته، وهي آية من سورة الفاتحة، التي (هي أعظم السور في القرآن) ([173])
ومعنى) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (: أي نخصك وحدك يا إلهنا بالعبادة والاستعانة، وذلك لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم للمذكور وفيه عما عداه، ف: انه يقول: نعبدك،ولا نعبد غيرك، ونستعين بك، ولا نستعين بغيرك، أي نوحدك ونطيعك خاضعين، ونطلب منك وحدك المعونة على عبادتك وعلى جميع أمورنا ([174]).
((وللقيام بعبادة الله تعالى، والاستعانة به هما الوسيلة للسعادة الأبدية، والنجاة من جميع الشرور، فلا سبيل إلى النجاة إلا بالقيام بهما، وإنما تكون العبادة عبادة إذا كانت مأخوذة عن رسول الله e، مقصوداً بها وجه الله، فبهذين الأمرين تكون عبادة، وذكر الاستعانة بعد العبادة مع دخولها فيها، لاحتياج العبد في جميع عباداته إلى الاستعانة بالله تعالى؛ فإنه إن لم يعنه الله لم يحصل له ما يريده من فعل الأوامر واجتناب النواهي)) ([175])
وجاء في الحديث الصحيح قوله e: ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولاتعجز) ([176])، أي احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة ([177]).
¥