فإنهم كانوا كفارا ولم يكن يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام.
فإنه دعاهم إلى التوحيد والإيمان فلم يجيبوه.
قال تعالى عن مؤمن آل فرعون: ((ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً)) [غافر: 34].
وكذلك النجاشي .. هو وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام؛ بل إنما دخل معه نفر منهم.
ولهذا لما مات لم يكن هناك من يصلي عليه؛ فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة؛ خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا، وصلى عليه، وأخبرهم بموته يوم مات، وقال: (إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات).
وكثير من شرائع الإسلام أو أكثرها لم يكن دخل فيها لعجزه عن ذلك.
فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت.
بل قد رُوىَ أنه لم يكن يصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم شهر رمضان، ولا يؤدي الزكاة الشرعية.
لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه وهو لا يمكنه مخالفتهم ونحن نعلم قطعا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بينهم بحكم القرآن.
والله قد فرض على نبيه بالمدينة أنه إذا جاءه أهل الكتاب لم يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه ...
والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن.
فإن قومه لا يقرونه على ذلك.
وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها؛ فلا يمكنه ذلك.
بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل.
وقيل: إنه سُم َّعلى ذلك!
فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة، وإن كانوا لم يلتزموا مع شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه؛ ل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها.
ولهذا جعل الله هؤلاء من أهل الكتاب ...
وهذا كما أنه قد كان بمكة جماعة من المؤمنين يستخفون بإيمانهم، وهم عاجزون عن الهجرة.
قال تعالى: ((إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فإولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا - إلا المستضفعين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفوراً) [النساء: 97 - 99].
فعذر سبحانه المستضعف العاجز عن الهجرة ...
فأولئك كانوا عاجزين عن إقامة دينهم فقد سقط عنهم ما عجزو عنه.
فإذا كان هذا فيمن كان مشركا، وآمن؛ فما الظن بمن كان من أهل الكتاب وآمن!
... وابن سلام وأمثاله هو واحد من جملة الصحابة والمؤمنين، وهو من أفضلهم.
وكذلك سلمان الفارسي.
فلا يقال فيه إنه من أهل الكتاب.
وهؤلاء لهم أجور مثل أجور سائر المؤمنين؛ بل يؤتون أجرهم مرتين، وهم ملتزمون جميع شرائع الإسلام فأجرهم أعظم من أن يقال فيه: ((أولئك لهم أجرهم عند ربهم)).
وأيضاً .. فإن أمر هؤلاء كان ظاهراً معروفاً، ولم يكن أحد يشك فيهم، فأي فائدة في الإخبار بهم.
وما هذا إلا كما يقال الإسلام دخل فيه من كان مشركاً، ومن كان كتابياً، وهذا معلوم لكل أحد بأنه دين لم يكن يعرف قبل محمد صلى الله عليه وسلم.
فكل من دخل فيه كان قبل ذلك؛ إما مشركا وإما من أهل الكتاب، إما كتابيا وإما أميا.
فأي فائدة في الإخبار بهذا؟!
بخلاف أمر النجاشي وأصحابه؛ ممن كانوا متظاهرين بكثير مما عليه النصارى.
فأن أمرهم قد يشتبه، ولهذا ذكروا في سبب نزول هذه الآية.
أنه لما مات النجاشي صلَّى عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال قائل: نصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؛ فنزلت هذه الآية.
هذا منقول عن جابر وأنس بن مالك وابن عباس، وهم من الصحابة الذين باشروا الصلاة على النجاشي.
... ولهذا قال تعالى: ((وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم)) [غافر: 28].
فهو من آل فرعون وهو مؤمن ...
وقد يقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه، يشهد القتال معهم، ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال، ويبعث يوم القيامة على نيته.
كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم.
فقيل: يا رسول الله، وفيهم المكره؟!
فقال: يبعثون على نياتهم).
وهذا في ظاهر الأمر وإن قتل وحكم عليه بما يحكم على الكفار فالله يبعثه على نيته.
كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام، ويبعثون على نياتهم.
فالجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر ...
- وبالجملة .. لا خلاف بين المسلمين أن من كان في دار الكفر وقد آمن - وهو عاجز عن الهجرة - لا يجب عليه من الشرائع ما يعجز عنها.
بل الوجوب بحسب الإمكان وكذلك ما لم يعلم حكمه ... )).
¥