فالجواب عنه: أن ما نقله ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ فهو يدور حول قضية تهييج الحزان، وتذكيرا بالمصاب، وقد جليت ذلك عند الحديث عن الأمر السادس الذي هو: أن الجلوس للتعزية فيه تجدد الحزن، وإدامته ().
ـ وأما قول الإمام المرداوي (ت885هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (ويكره الجلوس لها، هذا المذهب وعليه أكثر أصحابنا ونص عليه، قال في الفروع: اختاره الأكثر، قال في مجمع البحرين: هذا اختيار أصحابنا)، ونقل أيضاً فقال: (قال الخلال: سهل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع، وعنه الرخصة لأهل الميت نقله حنبل، واختاره المجد، وعنه الرخصة لأهل الميت ولغيرهم، خوف شدة الجزع. وقال أحمد: أما والميت عندهم: فأكرهه) ().
فيظهر من هذا الكلام أن مسألة الجلوس الخالي من المنكر وتهييج الأحزان مسألة دار فيها الخلاف، فهي محل نظر، أي الأمر فيها واسع فكيف يضيق على الناس ويحرج عليهم في مسألة خلافية، فمسألة فيها خلاف بين العلماء كيف يحكم عليها بأنها بدعة. والله المستعان.
ـ وأما قول الإمام الطرطوشي (ت530هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (قال علماؤنَا المالكيون: التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه، فأَما إن قعد في بيته أَو في المسجد محزوناً من غير أن يتصدى للعزاء؛ فلا بأس به، فإنه لما جاء النبي ? نعيُّ جعفر؛ جلس في المسجد محزوناً، وعزاه الناس) ().
قلت: أما قوله ـ رحمه الله تعالى ـ: (التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه) فيُرد على هذا القول بحديث عائشة ?ا السابق.
وقال أيضاً: (فصل المآتم: فأَما المآتم؛ فممنوعة بإجماع العلماء: قال الشافعي: (وأَكره المآتم، وهو اجتماع الرجال والنساء، لما فيه من تجديد الحزن).
والمأتمُ: هو الاجتماع في الصُّبْحَة، وهو بدعة منكرة لم يُنقل فيه شيء.
وكذلك ما بعده من الاجتماع في الثاني والثالث والسابع و الشهر والسنة، فهو طامة ().
قلت: أما المآتم، والاجتماع في المقبرة، وتجديد الحزن فهذا لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في الجلوس للتعزية عند أهل الميت بدون تسخط وجزع ونياحة.
لأن معنى الصُّبْحَة: هي تبكيرهم إلى قبر ميِّتهم الذي دفنوه بالأمس هم وأقاربهم ومعارفهم، ومن ـ أي مما حذر منه العلماء أيضاً ـ فرش البسط وغيرها في التربة لمن يأتي إلى الصُّبْحَة وغيرها) ().
ـ وأما قول الإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (وكان من هديه ? تعزيةُ أهلِ الميت، ولم يكن من هديه أن يجتمع للعزاء، و يقرأ له القرآن، لا عند قبره و لا غيره، وكل هذا بدعة حادثة مكروهة) ().
فأقول: كلام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ واضح فيمن اجتمع للتعزية وجمع مع الجلوس أمراً غير مشروع، بل هو من البدع المحدثة وهو الاجتماع لقراءة القرآن الكريم للميت، فجيء بعبادة في موضع لم يرد عن الشارع الحكيم فعله، ومعلوم أن الأصل في العبادات الحضر والمنع حتى يرد الدليل ()، ولا دليل هنا، أما من حمل كلام ابن القيم على الجلوس ذاته فلا يسلم له.
ـ وأما قاله الشيخ أحمد البنا عند كلام أبي هريرة ? حينما قال: (لا تضربوا عليّ فُسطاطاً، و لا تتبعوني بمجمر .. ) فما فسره به البنا غير صحيح، والصحيح في معناها، أن بعض الناس كان يضرب على قبره فسطاط حتى يتم دفنه ثم ينزع، وهذا الفسطاط يقي من شدة حر الشمس، وقد فعله بعض السلف وكرهه بعضهم، ولكن لم يرد أباهريرة ? هذا الفسطاط، وإن كان الأقرب جوازه للحاجة لإتقاء شدة الحر.
ـ وأما قول الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ في مسألة قصد التعزية، والذهاب إلى أهل الميت في بيتهم قال: (هذا ليس له أصل من السنة، ولكن إذا كان الإنسان قريبا لك وتخشى أن يكون من القطيعة ألا تذهب ولكن بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت، وتلقي المعزين لأن هذا عده بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومن صادفهم في السوق أو في المسجد عزاهم.
فهاهنا أمران:
الأول: الذهاب إلى أهل الميت، وهذا ليس بمشروع اللهم إلا كما قلت إذا كان من الأقارب ويخشى أن يكون ترك ذلك قطيعة.
الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين. وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة) ().
قلت: إن سبب منع الشيخ محمد بن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ للجلوس يظهر من أنه يعتمد على حديث جرير المشهور، مع الاعتماد على الاستقراء الذي ظهر له بأن السلف لم يكونوا يجتمعون.
وأما حديث جرير فقد ظهر ضعفه، وعلى فرض صحته فقد فقهه الإمام محمد بن عثيمين ـ رحمه الله تعالى ـ ويظهر ذلك من قوله في آخر كلامه السابق بقوله: (الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين. وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة)، فإذا كان الاجتماع لوحده فهل يقال بأنه لا يجوز؟!.
ويرد ما ذهب إليه من قوله ـ رحمه الله تعالى ـ: (وهذا لا أصل له) حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن ـ إلا أهلها وخاصتها ـ أمرت ببُرْمَةٍ من تَلبينة فطبِخَت, ثمّ صنع ثريدٌ فصُبّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كلنَ منها, فإِنّي سمعت رسول الله ? يقول: "التّلبينة مَجمّةٌ لفؤاد المريض, تَذهبُ ببعضِ الحُزْن" ().وهذا لفظ البخاري.
وأما استقراء حال السلف فقد وضحته فيما سبق ().
ويظهر أن الاجتماع المعتاد عندنا اليوم، ليس فيه محذوراً من الناحية الشرعية فالأمر لا يعدو أن يكون جلوساً يسلي الأقارب فيه بعضهم بعضاً، ويتناسون فيه المصيبة والله تعالى أعلم.
وبهذا يظهر أن القول الفصل في هذه المسألة هو أن الاجتماع للتعزية ذات الاجتماع ليس فيه شيء، والأمر في ذلك واسع، ولا يضيق فيه على المسلمين.
¥