فيحرم بعد هذا البيان الجلوس في أي مجلس يُعصى الله تعالى فيه، سواءً كان مجلس تعزية أو غيره، ويجب تذكير من فيه بالله ?، وتخويفهم به، فإن أبوا فلا يجالسون، والتعامل مع أهل البدع أشد من التعامل مع أهل المعاصي، لأن أهل البدع أخطر على المسلم من أهل المعاصي.
قال الإمام أبي محمد البربهاري: (وإذا رأيت الرجل جالس مع رجل من أهل الأهواء فحذره وعرفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه، فإنّه صاحب هوى) ().
- وأما ما نقل عن العلماء من منع الجلوس للتعزية، فالجواب عن ذلك ما يلي:
أما ما جاء عن الإمام الشافعي (ت204هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ في كتابه الأم (): (وأكره المآتم، وهو الجماعة وان لم يكن لهم بكاء فإن ذلك يجدد الحزن، ويكلف المؤنة، مع ما مضى فيه من الأثر).
فالجواب عنه: أن الإمام الشافعي (ت204هـ) ـ رحمه الله تعالي ـ حدد المآتم لما فيها من تجديد الحزن، واستند على أثر جرير بن عبدالله البجلي ? الذي سبق تحريره ()، وقد رأيتَ أن الحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به ()، ولو صح فقد تم بيان فقهه.
ـ وأما استدلالهم بجواب الإمام أحمد (ت241هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ عندما سئل عن أولياء الميت يقعدون في المسجد يعزون؟ فقال: (أما أنا فلا يعجبني أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت) ().
فالجواب عنه: أنه يظهر من كلام الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ أنه لم يقل بتحريمه، ولا حتى منعه، وسبب خوفه منه هو ما بينه بقوله: (أخشى أن يكون تعظيماً للميت أو قال للموت) فالذي لم يعجبه في الجلوس هي العلة التي ذكرها، لا الجلوس نفسه؛ ولأنه ـ رحمه الله تعالى ـ رخص في الجلوس في غير موضع كما ذكره عنه الخلال وغيره) ().
ـ وأما قول الإمام الشيرازي ـ رحمه الله تعالى ـ في المهذب في (باب: التعزية، والبكاء على الميت): (فصل في الجلُوس للتعزية: ويكره الجلوس للتعزية؛ لان ذلك محدث، والمحدث بدعة) ().
فالجواب عنه: بأن كلامه ـ رحمه الله تعالى ـ مردود بحديث عائشة ?ا في الصحيحين المتقدم وفيه: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء) ()، ومعلوم أن الناس عند اجتماعهم لا يقصدون بذلك عبادة يتقربون بها إلى الله تعالى لا بد من الإتيان بها، وإذا لم يأتي بها الشخص فإنه آثم.
وأما قوله محدث، والمحدث بدعة، فكيف يكون هذا العمل وبدعة وقد ورد عن السلف فعله، كما في حديث أم المؤمنين عائشة ?ا، لكن لعل الإمام الشيرازي يريد بقوله محدث إذا أضيف إليه أمر مبتدع، كما فهم ذلك الإمام النووي وذكره بقوله (): (وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح:" إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة") ().
ـ وأما قول النووي (ت676هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ (): (قال الشافعي وأصحابنا ـ رحمهم الله تعالى ـ يكرهون الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم، ولا فرق بين الرجال والنساء في كراهة الجلوس لها، صرح به المحاملي، ونقله عن نص الشافعي ?، وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح:" إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة") ().
فأقول: يظهر من نقل النووي ـ رحمه الله تعالى ـ أنه يحرر قول المذهب أما رأيه هو فقد بينه بقوله: (وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر)، وقوله بالكراهة لعل سببه هو ما حصل في عصره من تجاوزات الناس في الجلوس من الإتيان بالمنكرات والبدع وهذا ظاهر جلي من قوله ـ رحمه الله تعالى ـ: (كما هو الغالب منها في العادة).
ـ وأما قول الإمام ابن قدامة (ت620هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (قال أبو الخطاب: يكره الجلوس للتعزية، وقال ابن عقيل: يكره الاجتماع بعد خروج الروح لأن فيه تهييجاً للحزن، وقال أحمد: أكره التعزية عند القبر إلا لمن لم يعزِ، فيعزى إذا دفن الميت، أو قبل أن يدفن) ().
¥