تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عند إمعان النظر في آيات القرآن الكريم، نجد أن القسط ورد في الآيات التي تبحث في الأمور المالية، ومنها شؤون اليتامى، فهذا اللفظ ارتبط دائماً بالكيل والميزان. لكأنّما القِسط هو العدل في أمور الحياة الاجتماعية والاقتصادية، أو هو العدل في تصريف شؤون الحياة التي تتشابك فيها العلاقات المادية. فالتجارة وما ينتج عنها من تداخل أموال الناس فيما بينهم، لا بدّ فيه من مراعاة المكاييل والمقاييس الدقيقة. وأموال اليتامى، وأحوالهم، والمحافظة عليهم، ورعاية شؤونهم من قبل الأوصياء، وما يجري بين الناس من عقود وعهود، وديون، وإيجار واستئجار .. كل ذلك عبّر عنه القرآن الكريم بكلمة (القسط) وما اشتقّ منها.

يمثل ذلك قوله تعالى: " وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا " (البقرة: 282)، وقوله تعالى: " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " (الممتحنة: 8)، ومثاله أيضاً قوله تعالى: " وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ " (الأنعام: 152)، وقوله تعالى: " وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " (الرحمن: 9). فالقسط إذن أخصّ من العدل.

وأما العدل، فهو مصطلح يفيد معنى العموم والشمول في صدق الحكم وصدق القول، وهو الحكم المنصف بمعناه العامّ، وهو كذلك صفة للحاكم المنصف، وهو أيضاً صفة للقول الصادق الذي يترتّب عليه إقامة الحقّ ودحض الباطل. فكأنّ العدل – بذلك – كلمة تشمل القِسط في طيّاتها، ويبقى القِسط هو الانتصاف في المعاملات اليومية، والشؤون الاجتماعية السائرة بين الأفراد.

وممّا يدلّ على أن العدل والقسط غير مترادفين، هو قول الحقّ تبارك وتعالى: " وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " (الحجرات: 9).

فالآية الكريمة أمرت أولاً أن يُصلحوا بين الطائفتين بالعدل. وهنا يُفهم أن يكون الحكم بين الفئتين حكماً عادلاً، يراعى فيه وجه الحقّ. وبعد ذلك أمرت الآية أن يقسطوا بينهما، أي يحسنوا المعاملة بين الفريقين المقتتلين، ولا يميلوا إلى أحدهما على الآخر حتى يتمّ تنفيذ الحكم بينهما عملياً ..

ثم إن مادّة (عدل) جاءت في القرآن الكريم على عدّة معانٍ، نبيّنها من خلال الحوار الذي دار بين عبد الملك بن مروان وسعيد بن جبير. فقد رُوي أن الخليفة عبد الملك بن مروان كتب إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل، فأجابه: إن العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم، قال تعالى: " وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ " (النساء: 58). والعدل في القول، قال الله تعالى: " وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ " (الأنعام: 152). والعدل: الفدية، قال عزّ وجلّ: " وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ " (البقرة: 123). والعدل في الإشراك، قال الله عزّ وجلّ: " ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ " (الأنعام: 1)، أي يشركون.

والله تعالى أعلم

ـ[جمال حسني الشرباتي]ــــــــ[22 - 08 - 2005, 08:16 م]ـ

تعديل في قمّة الإحكام والأدب

بارك الله بك---ويلزمني أن أستفسر منك عن الآتي--قوله "أَلاَّ تُقْسِطُواْ " فهل هي بمعنى " خفتم القسوط"

؟؟؟

ـ[لؤي الطيبي]ــــــــ[22 - 08 - 2005, 11:01 م]ـ

أخي الحبيب جمال ..

شكر الله لكم أدبكم الجمّ ..

وقبل أن أباشر في الاجابة عن استفسارك - حفظك الله - أودّ أن أنبّه إلى خطأ مطباعي .. فقد جاء في الفقرة الرابعة من مشاركتي السابقة: (وأما المقسطين، فمثاله .. )، والصحيح أن يُقال: (وأما المقسطون، فمثاله .. )! ولكني بعد أن غيرت الجملة من (ومثال المقسطين .. ) إلى ما هي عليه الآن، لم أقم بتعديل كلمة المقسطين نفسها .. فاعذرونا!

أما بالنسبة لاستفسارك .. أخي الكريم، فقد جاء في اللسان أن (القُسُوط) هو: الجَوْر والعدول عن الحقّ. يُقال: قَسَطَ يَقْسِطُ (بالفتحة على الياء)، فهو قاسِطٌ: إذا جَارَ وظَلَم. و أَقْسَطَ يُقْسِطُ (بالضمّة على الياء)، فهو مُقْسِطٌ إذا عَدَل.

ولذلك فإن " تُقْسِطُوا" (بالضمّة) في الآية الكريمة معناها: تعدلوا ..

ولو كانت: (ألا تَقْسِطوا) - بالفتحة - لكان المعنى: تظلموا.

والله أعلم ..

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير