تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بلاغةٌ في الوفاء بالعهود

ـ[أنوار الأمل]ــــــــ[27 - 08 - 2005, 10:51 م]ـ

قال تعالى: “وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا. إن الله يعلم ما تفعلون ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة. إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون”. وقال تعالى “ولا تتخذوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم”. (النحل: 91 - 94).

يخاطب الله تعالى في هذه الآيات المسلمين الذين عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإيمان والطاعة والولاء لله والرسول عندما بايعوه- صلى الله عليه وسلم- ويأمرهم الله بالحفاظ على عهودهم، وبألا يبطلوا أيمانهم، ويضرب الله مثلاً بامرأة خرقاء مختلة العقل من قريش حيث كان لها جوار، وقد اتخذت مغزلاً، فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فتنقض ما غزلته، وهكذا تفعل كل يوم، فكان حالها إفساد ما كان نافعاً محكماً من عملها وإرجاعه الى عدم الصلاح، فنهوا عن أن يكون حالهم كحالها في نقضهم عهد الله وهو عهد الإيمان بالرجوع إلى الكفر وأعمال الجاهلية، وحذرهم الله من سوء عاقبة من يفعل ذلك، هذا هو المعنى الإجمالي للآيات، ولكن كيف عُبر عن هذا المعنى، تعالوا بنا لنقترب من البيان القرآني المعجز لنقف الوقفات الآتية:

- التعبير ب”أوفوا” من دون “أدّوا”.

- وجه التعبير بإذا الظرفية في قوله “إذا عاهدتم”.

- المقصود بنقض الأيمان.

- فائدة قوله “بعد توكيدها”.

- دلالة الجملة المعترضة “إن الله يعلم ما تفعلون”.

- اختيار التعبير بالفعل المضارع في قوله “يعلم” وفي قوله “تفعلون”إلى غير ذلك من النظرات والوقفات.

أما عن إيثار التعبير ب”أوفوا” فلأن فيه دلالة على التمسك بالعهد تمسكاً تاماً، وأدائه وافياً لا نقيصة فيه، وهذا ما يناسب الحديث عن العهد مع الله تعالى، لذا أضيف العهد الى الله في قوله “بعهد الله” لإبراز عظمة هذا العهد وفخامته، وللحث على الالتزام به وعدم نقضه، هذا ما أوحى به لفظ الجلالة بما فيه من معاني الجلالة والعزة، لأنه اسم الله الأعظم. والإتيان ب”إذا” الظرفية لتأكيد الوفاء بالعهد.

قوله: “ولا تنقضوا الأيمان” والنقض معناه في اللغة الفسخ والحل، فيقال: نقض الحبل: إذا حل ما كان أبرمه، ونقض الغزل ونقض البناء. وقد استعمل النقض هنا مجازاً في إبطال العهد وعدم الالتزام به بقرينة إضافته الى “عهد الله” وهي استعارة من مخترعات القرآن الكريم بينت على ما شاع من كلام العرب في تشبيه العهد، وكل ما فيه وصل بالحبل هو تشبيه شائع في كلامهم، ووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طيات الحبل، لإبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد والتفلت منه شيئاً فشيئاً وفي أزمنة متكررة. والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما، لأن في النقض إفساداً لهيئة الحبل وزوال رجاء عودها كما كانت، وأما القطع فهو تجزئة، فتأمل أخي القارئ قمة الإعجاز القرآني في دقة اختيار اللفظة الملائمة للمعنى المراد.

ونقض الأيمان معناه: إبطال ما كان لأجله والتحلل من الالتزام به، ويفهم من هذا أن النقض إبطال المحلوف عليه لا إبطال القسم فجعل إبطال المحلوف عليه نقضاً لليمين في قوله “ولا تنقضوا الأيمان” تهويلاً وتغليظاً للنقض، لأنه نقض لحرمة اليمين، ولذا جاء قوله “بعد توكيدها” زيادة في التحذير، وعلى هذا فإنه ينبغي لكل مسلم غيور على دينه أن يحافظ على عهده مع الله فلا يؤتى الدين من قبله، ولا يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، وأن يتمسك بهذا الإسلام ما دام قد ارتضاه لنفسه ديناً، وعلى هؤلاء الذين يفصلون الفتاوى على حسب ما يأمرهم به ذوو السلطان أو الجاه طمعاً في منصب أو مكانة وحظوة عندهم، على هؤلاء أن يتقوا الله ويتذكروا هذه الآية الكريمة جيداً، لأن عقابهم سيكون شديداً عند ربهم، لذا اختتمت الآية الأولى بجملة معترضة للتحذير من التساهل في التمسك بالايمان والإسلام للتذكير بأن الله يطلع على ما يفعلونه، تجد هذا في قوله سبحانه “إن الله يعلم ما تفعلون” وقد أكد بناء هذه الجملة بأن واسمية الجملة وقد اختير الفعل المضارع في قوله “يعلم” وفي “تفعلون” لدلالته على التجدد، أي كلما فعلوا فعلاً فالله يعلمه.

وجاء قوله “ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها ... ” الآية لتشنيع حال الذين ينقضون العهد وعطفت على جملة “ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها”. واعتمد العطف على المغايرة في المعنى بين الجملتين، لما في الثانية من التمثيل وإن كانت من جهة الموقع والمعنى كالتوكيد لجملة “ولاتنقضوا الايمان” فقد نهى المخاطبون عن أن يكونوا مضرب مثل معروف في العرب بالاستهزاء، وهو المرأة التي تنقض غزلها بعد شد فتله. وأحب أن أختم هذه المقالة بنظرة خاطفة في بيان آية مشابهة للآية الأولى وهي قوله سبحانه في سورة الإسراء “وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا” وأعيد لفظ العهد في مقام إضماره حيث لم يقل: وأوفوا بالعهد إنه كان مسؤولا للاهتمام به، ولتكون هذه الجملة مستقلة فتسري مسرى المثل. والله أعلم.

د. عادل الرويني

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير