تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال ابن رشد: وبهذا ينحل جميع الشكوك الواردة لهم في هذا الباب. وأعسرها كلها هو ما جرت به عادتهم أن يقولوا: إنه إذا كانت الحركات الواقعة في الزمان الماضي حركات لا نهاية لها، فليس يوجد منها حركة في الزمان الحاضر المشار إليه، إلا وقد انقضت قبلها حركات لا نهاية لها. وهذا صحيح ومعترف به عند الفلاسفة، إن وضعت الحركة المتقدمة شرطاً في وجود المتأخرة، وذلك أنه متى لزم أن توجد واحدة منها لزم أن توجد قبلها أسباب لا نهاية لها. وليس يجوّز أحد من الحكماء وجود أسباب لا نهاية لها، كما تجوزه الدهرية، لأنه يلزم عنه وجود مسبَّب من غير سبب، ومتحرك من غير محرك، لكن القوم لما أداهم البرهان إلى أن ههنا مبدأً محركاً أزلياً ليس لوجوده ابتداء ولا انتهاء، وأن فعله يجب أن يكون غير متراخ عن وجوده، لزم أن لا يكون لفعله مبدأ كالحال في وجوده، وإلا كان فعله ممكناً لا ضرورياً. فلم يكن مبدأ أولاً، فيلزم أن تكون أفعال الفاعل الذي لا مبدأ لوجوده ليس لها مبدأ كالحال في وجوده. وإذا كان ذلك كذلك، لزم ضرورة أن لا يكون واحد واحد من أفعاله الأولى شرطاً في وجود الثاني. لأن كل واحد منهما هو غير فاعل بالذات. بل لزم أن يكون هذا النوع مما لا نهاية له أمراً ضرورياً تابعاً لوجود مبدأ أول أزلي. وليس ذلك في أمثال الحركات المتتابعة أو المتصلة، بل وفي الأشياء التي يظن بها أن المتقدم سبب للمتأخر، مثل الإنسان الذي يولد إنساناً مثله. وذلك أن المحدث للإنسان المشار إليه بإنسان آخر، يجب أن يترقى إلى فاعل أول قديم، لا أول لوجوده، ولا لإحداثه إنساناً عن إنسان. فيكون كون إنسان عن إنسان آخر إلى ما لا نهاية له، كوناً بالعرض والقبلية والبعدية بالذات. وذلك أن الفاعل الذي لا أول لوجود كما لا أول لأفعاله التي يفعلها بلا آلة، كذلك لا أول للآلة التي يفعل بها أفعاله التي لا أول لها، من أفعاله التي من شأنها أن تكون بآلة. فلما اعتقد المتكلمون فيما بالعرض أنه بالذات، دفعوا وجوده، وعسر حل قولهم، وظنّوا أن دليلهم ضروري. وهذا من كلام الفلاسفة بين. فإن قد صرح رئيسهم الأول، وهو أرسطو، أنه لو كانت للحركة حركة لما وجدت الحركة، وأنه لو كان للأسطقس اسطقس لما وجد الأسطقس. وهذا النحو مما لا نهاية ل ليس عندهم مبدأ ولا منتهى. ولذلك ليس يصدق على شيء منه أنه قد انقضى، ولا أنه قد دخل في الوجود ولا في الزمان الماضي. لأن كل ما انقضى فقد ابتدأ، وما لم يبتدئ فلا ينقضي. وذلك أيضاً بين من كون المبدأ والنهاية من المضاف. ولذلك يلزم من قال إنه لا نهاية لدورات الفلك في المستقبل ألا يضع لها مبدأ، لأن ما ل مبدأ فله نهاية، وما ليس له نهاية فليس له مبدأ. وكذلك الأمر في الأول والآخر، أعني ما له أول فله آخر، وما لا أول له فلا آخر له، وما لا آخر له فلا انقضاء من أجزائه بالحقيقة، ولا مبدأ لجزء من أجزائه بالحقيقة، وما لا مبدأ لجزء من أجزائه فلا انقضاء له. ولذا إذا سأل المتكلمون الفلاسفة: هل انقضت الحركات التي قبل الحركة الحاضرة، كان جوابهم: إنها لم تنقض، لأن من وضعهم أنها لا أول لها، فلا انقضاء لها. فإيهام المتكلمين إن الفلاسفة يسلمون انقضاءها ليس بصحيح، لأنه لا ينقضي عندهم إلا ما ابتدأ. فقد تبين لك أنه ليس من الأدلة التي حكاها عن المتكلمين في حدوث العالم كفاية في أن تبلغ مرتبة اليقين، وأنها ليس تلحق بمراتب البرهان، ولا الأدلة التي أدخلها وحكاها عن الفلاسفة في هذا الكتاب لحق بمراتب البرهان. وهو الذي قصدنا بيانه في هذا الكتاب. وأفضل ما يجاوب به من سأل عما دخل من أفعاله في الزمان الماضي أن يقال: دخل من أفعله مثل ما دخل من وجده لأن كليهما لا مبدأ له.

تهافت التهافت (54 - 57)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير