تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

أنه موجود.

والمغالطة في هذا القول بينة؛ فإن المرئي من هو مرئي بذاته، ومنه ما هو مرئي من قبل المرئي بذاته، وهذه هي حال اللون والجسم: فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون. ولذلك ما لم يكن له لون لم يبصر. لو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط، لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس. فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة، وهذه كلها خلاف ما يعقل.

وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع، والأصوات ممكنة أن ترى. وهذا كله خروج عن الطبع، وعن ما يمكن أن يعقله إنسان. فإنه من الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع، وأن محسوس هذه غير محسوس تلك، وأن آلة هذه غير آلة تلك، وأنه ليس يمكن أن ينقلب البصر سمعاً، كما ليس يمكن أن يعود اللون صوتاً.

والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما، فقد يجب أن يسالوا، فيقال لهم: ما هو البصر؟ فلا بد من أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات: الألوان وغيرها. ثم يقال هم ماهو السمع؟ فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات. فإذا وضعوا هذا، قيل لهم: فهل البصر عند إدراكه الأصوات، وهو بصر فقط، أو سمع فقط؟ فإن قالوا: سمع فقط، فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان. وإن قالوا: بصر فقط، فليس يدرك الأصوات. وإذا لم يكن بصراً فقط لأنه يدرك الأصوات، ولا سمعاً فقط لأنه يدرك الألوان فهو بصر وسمع معاً. وعلى هذا فستكون الأشياء كلها شيئاً واحداً، حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسبه يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا، أو يلزمهم تسليمه، وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة.

وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية، فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بـ ((الإرشاد) وهي هذه الطريقة: وتلخيصها، أن الحواس إنما تدرك الأشياء. وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض هي أحوال، ليست بذوات. فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات. والذات هي نفس الموجود المشترك لجميع الموجودات. فإذن الحواس: إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود.

وهذا كله في غاية الفساد. ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول: أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء، لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود، لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه، ولا كان بالجملة يمكن في الحواس: لا في البصر أن يدرك فصول الألوان، ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات، ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات. وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالجنس واحداً، فلا يكون فرق بين مدرك السمع وبين مدرك البصر

وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان، وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها. فوجه المغالطة في هذا، هو أن ما يدرك ذاتياً أخذ أنه مدرك بذاته. ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها، لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع، ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة.

والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمتين بنصرتها، في زعمهم، إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة، التي هي ضحكة من عني بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به، وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور. وذلك أنه من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجوداً ليس بجسم، وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام. ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت.

الكشف عن مناهج الأدلة (77 - 81)

وبسبب هذا التناقض فر بعض الأشاعرة إلى إنكار الرؤية وأولوها بمزيد العلم.

قال شيخ الإسلام: حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع المعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به.

بيان تلبيس الجهمية (2

435)

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير