وقوله رحمه الله: (الفقه) الفقه لغة: الفهم، ومنه قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى عليه السلام: {واحْلُلْ عُقْدةً منْ لِساني يَفْقَهوا قَوْلي} أي: يفهموا ما أقوله، ثم هذا الإستعمال للفقه بمعنى الفهم لغة فيه قولان: فقيل: إنّه الفهم عموماً، وقيل: إنّه الفهم للأمور الدقيقة التي تحتاج إلى إعمال فكر، وعناء، فلا يطلق على فهم الأمور الواضحة، وعلى هذا القول، فلا يصح أن تقول: فقهت أن الواحد نصف الإثنين، لأنه أمر واضح لا يحتاج إلى كبير عناء.
وعلى هذا يكون القول الأول: عاماً شاملاً لكل فهم، وعلى الثاني: يكون الفقه خاصاً بالفهم الذي يحتاج إلى إعمال فكر، وبذل جهد.
أما الفقه في الاصطلاح: فهو (العلم بالأحكام الشرعية، العملية، المكتسبة من أدلتها التفصيلية).
فقولهم: (العلم بالأحكام الشرعية)، العلم ضد الجهل، وحقيقته: إدراك الشيءِ على ما هو عليه، فإذا أدركت الشيء على حقيقته التي هو عليها؛ فقد علمته، أما لو أدركته ناقصاً عن حقيقته فإنك لم تعلمه.
و (الأحكام) جمع حكم، وهو في اللغة: المنع، والقضاء، والحكم: إثبات أمر لأمر، أو نفيه عنه، وله عدة تعاريف تختلف بحسب إختلاف أنواعه.
وقولهم: " إثبات أمر لأمر " مثاله: أن تقول زيد قائم أثبتَّ القيام لزيد هذا حكم حكمت عليه بالقيام، وقولهم: " أو نفيه عنه " أي تنفيه عنه فتقول مثلاً: زيد ليس بقائم؛ هذا حكم حكمت عليه بأنه ليس بقائم.
والحكم الشرعي في اصطلاح علماء الأصول: هو (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين على جهة الاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع).
وقولهم (الشّرعية) قيد يخرج الأحكام غير الشرعية كاللغوية، والعادية، والمنطقية، وغيرها فهو يدل على أنها مختصة بالأحكام إذا كانت من الشرع فقط.
وقولهم (العملية) قيد يخرج بقيّة الأحكام الشرعية كالعقائدية، لأن العملية مختصة بالعبادات والمعاملات، فلا يدخل فيها ما كان متعلقاً بالعقائد؛ لأنه يبحث في كتبه المتخصصة فيه ككتب التوحيد والعقيدة.
وقولهم: (المكتسبة) أي: المستفادة التي حُصِّلت، واستفيدت.
وقولهم: (من الأدلة الشرعية) بيان لأصل الحكم، والأدلة الشرعية هنا عامة شاملة للأدلة النقلية، وهي: دليل الكتاب، والسُّنة، والإجماع، والأدلة العقلية كالقياس، والنظر الصحيح.
قوله رحمه الله: [منْ مُقْنِع الإمامِ الموفّق أَبي مُحمّدٍ]: قوله: [من]: للتبعيض، أي: أنه جعل كتاب المقنع للإمام الموفق أبي محمد رحمه الله أصلاً لكتابه هذا، فاختصره منه.
والمقنع: كتاب للإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي-رحمة الله عليه- المتوفى عام 620هـ في يوم عيد الفطر هذا الإمام الجليل ألّف كتاباً إسمه: عمدة الفقه، وهذا الكتاب صاغ فيه الفقه بأخصر عبارة، واعتبره الدرجة الأولى لطالب الفقه، ثم ألّف بعده كتاباً إعتبره درجة ثانية فوقه، وهو المقنع، وتوسّع فيه قليلاً عن العمدة.
ثم وضع كتاباً ثالثاً وهو الكافي، وذكر فيه الخلاف مختصراً للخلاف في داخل مذهب الحنابلة، وهو فوق كتاب المقنع.
ثم وضع كتابه المغني ذكر فيه خلاف الروايات، واختلاف الفقهاء، فجمع بين الخلاف داخل المذهب، وخارجه، وهو كتابه لمن أراد أن يتأهل لدرجة الاجتهاد، فهذه درجات وضعها هذا الإمام الموفق-رحمة الله عليه- في دراسة الفقه، وهذه عادة المتقدمين أنهم يضعون الفقه على مراتب، ولا يمكن لطالب العلم أن يضبط علم الفقه، ويكون فقيهاً بمعنى الكلمة إلا إذا ضبطه بهذه الطريقة، وهي التدرج في دراسته.
فالكتاب الذي معنا هو الدرجة الثانية، وهو كتاب المقنع، ويعتبر درجة ثانية بعد العمدة فليس من الصواب أن الشخص يبدأ بالمغني أولاً، دون أن يتأهل بدراسة ما قبله حتى يتسنى له ضبطه، وفهمه.
فالإمام الحجاوي-رحمة الله عليه- إختصر المقنع؛ فألغى منه مسائل، وأضاف مسائل، فسماه زاد المستقنع، فالأصل في هذا الكتاب أنه كتاب المقنع، أُضيفت إليه مسائل، وحُذفت منه أخرى.
قوله رحمه الله: [على قولٍ واحدٍ، وهُو الرَّاجِحُ في مذهبِ أحمدَ] قوله: [على قول واحد]: الفقهاء-رحمة الله عليهم- كانوا يكتبون الفقه على طريقتين:
الأولى: طريقة المذهب.
¥