2 وقال بعضهم بالنسخ. وهو احتمال لا دليل عليه، ولا يقين في المتقدم من المتأخر منها.
3 وأول بعضهم أحاديث النهي فيمن لم يسم عند شربه، وهو تأويل ضعيف لا دليل عليه.
4 وحمل بعضهم أحاديث الجواز على الحاجة كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: "وأما الشرب قائمًا فقد جاءت أحاديث صحيحة بالنهي، وأحاديث صحيحة بالرخصة؛ ولهذا تنازع العلماء فيه، وذكر فيه روايتان عن أحمد؛ ولكن الجمع بين الأحاديث: أن تحمل الرخصة على حال العذر، فأحاديث النهي في الصحيح ... ثم ساقها وأحاديث الرخصة مثل ما في الصحيحين ... وساقها ثم قال: وحديث علي هذا قد روي فيه أثر أنه كان ذلك من زمزم، كما جاء في حديث ابن عباس أن هذا كان في الحج. والناس يطوفون ويشربون من زمزم، ويستقون ويسألونه، ولم يكن موضع قعود مع أن هذا كان قبل موته بقليل؛ فيكون هذا ونحوه مستثنى من ذلك النهي، وهذا جار عن أحوال الشريعة أن المنهي عنه يباح عند الحاجة؛ بل ما هو أشد من هذا يباح عند الحاجة؛ بل المحرمات التي حرم أكلها وشربها كالميتة والدم تباح للضرورة ... إلخ" (14).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأكل والشرب قائمًا: هل هو حلال أم حرام أم مكروه كراهية تنزيه؟ وهل يجوز الأكل والشربُ إذا كان له عذر كالمسافر أو الأكل والشرب في الطريق ماشياً، فأجاب رحمه الله: "أما مع العذر فلا بأس، فقد ثبت أن النبي {شرب من ماء زمزم وهو قائم فإن الموضع لم يكن موضع قعود، وأما مع عدم الحاجة فيكره؛ لأنه ثبت أن النبي {نهى عنه، وبهذا التفصيل يحصل الجمع بين النصوص" (15) ا ه.
ويشكل على كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حديث ابن عمر رضي الله عنهما في أنهم كانوا يشربون قيامًا ويأكلون وهم يمشون على عهد النبي {، كما يشكل عليه الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم. ويصعب حملها كلها على أن لهم أعذارًا ولا سيما أن ألفاظها لا تدل على ذلك.
5 وحمل آخرون أحاديث الرخصة على الجواز، وأحاديث النهي على الكراهة التنزيهية، وهي طريقة الطبري والأثرم والخطابي وابن بطال والنووي وغيرهم، ورجحه الحافظ ابن حجر بقوله: "وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض" (16).
قال الأثرم: "إن ثبتت الكراهة حملت على الإرشاد والتأديب لا على التحريم" (17). وبذلك قال جمع من المحققين من العلماء.
وعلى هذا الوجه من الجمع لا يبقى إلا إشكالان:
الأول: قوله في حديث أنس عن الأكل قائمًا: "ذلك أشر وأخبث".
الثاني: أمره عليه الصلاة والسلام من نسي فشرب قائمًا أن يستقيء كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فالأول رواه مسلم وأصحاب السنن إلا النسائي، ولم يرد عند أبي داود وابن ماجه ذكر للأكل، وإنما جاء في رواية مسلم بلفظ: "قال قتادة: فقلنا: فالأكل؛ قال: ذلك أشر وأخبث" وعند الترمذي: فقيل: الأكل؟ قال: "ذاك أشد".
والقرطبي يرى أن هذه الجملة ليست من قول النبي {بل هي من قول قتادة، قال رحمه الله تعالى: "وأما قول قتادة: "الأكل أشر" فشيء لم يقل به أحد من أهل العلم فيما علمت، وعلى ما حكاه النقلة والحفاظ فهو رأيه لا روايته، والأصل الإباحة والقياس خليٌ عن الجامع" ا ه. وقال أيضًا: "ولا خلاف في جواز الأكل قائمًا وإن كان قتادة قال: الأكل أشر وأخبث" (18) ا ه.
وظاهر الحديث أنه من كلام النبي {أو من كلام أنس رضي الله عنه، لا من كلام قتادة. وإذا كان من كلام أنس فهو موقوف عليه وليس له حكم الرفع؛ إذ للرأي فيه مجال. وأما إن كان من كلام النبي {وليس هو الظاهر بدليل روايتي أبي داود وابن ماجه فالإشكال لا يزال قائماً. ولا مناص حينئذ من حمل النهي على الكراهة التنزيهية كالشرب.
وأما الإشكال الثاني: وهو أمره من شرب قائمًا ناسيًا بالاستقاء فأخرجه مسلم من رواية عبد الجبار بن العلاء حدثنا مروان يعني الفزاري حدثنا عمر بن حمزة، أخبرني أبو غطفان المري أنه سمع أبا هريرة يقول .. فذكره، فبعضهم حاول تضعيف الحديث وإن كان في صحيح مسلم بعمر بن حمزة كما فهمه النووي من كلام القاضي عياض، وعنف عليه في ذلك. قال الحافظ ابن حجر: "وأما تضعيفه يعني عياضًا لحديث أبي هريرة بعمر بن حمزة فهو مختلف في توثيقه، ومثله يخرج له مسلم في المتابعات وقد تابعه الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما أشرت إليه عند أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح" (19) ا ه.
¥