وقول القاضي عياض هو: "لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب ناسيًا ليس عليه أن يتقيأه" قال النووي: "فأشار بذلك إلى تضعيف الحديث، فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاءة لا يمنع كونها مستحبة؛ فإن ادعى مدع منع الاستحباب، فهو مجازف لا يلتفت إليه، فمن أين له الإجماع على منع الاستحباب، وكيف تترك هذه السنة الصحيحة الصريحة بالتوهمات والدعاوى والترهات" (20).
وسلك القرطبي مسلكًا آخر بعد أن نقل حكاية القاضي عياض الإجماع على أن من شرب قائمًا ناسيًا ليس عليه أن يستقيء فقال: "قال بعض الشيوخ: والأظهر: أن هذا موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه ... ثم قال: ويمكن أن يقال: إن القيء وإن لم يقل أحد بأنه واجب عليه فلا بُعْدَ في أن يكون مأمورًا به على جهة التطبب .. وهو يؤيد قول من قال: إن النهي عن ذلك مخافة مرض أو ضرر؛ فإن القيء استفراغ مما يخاف ضرره" (21) ا. ه.
والذي يظهر لي أن لفظة: "فمن نسي فليستقيء" فيها غرابة؛ لأن النسيان مغفور للمكلف كما دلت على ذلك نصوص الشريعة. ولذا قال من قال: إن الأمر به من جهة الطب.
وبكل حال فإن نصوص جواز الشرب قائمًا أقوى وأثبت من نصوص المنع والله أعلم.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وللشرب قائماً آفاتٌ منها: أنه لا يحصل به الري التام، وينزل بسرعة إلى المعدة، فيخشى أن يبرِّد حرارتها ويشوشها ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكل هذا يُضِّرُ بالشارب" (22).
ثانياً: التسمية والحمد: إذا أراد الشرب شُرع له أن يسمي، وإذا انتهى أن يحمد الله تعالى.
روى الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "أن رسول الله {كان يشرب في ثلاثة أنفاس، إذا أدنى الإناء إلى فيه يسمي الله، فإذا أخره حمد الله، يفعل به ثلاث مرات" (23).
وقد دل حديث أبي هريرة على أنه يشرع للشارب إذا أراد الشرب أن يسمي، فإذا قطع الشرب للنفس حمد الله، فإذا أراد الشرب ثانية سمى، فإذا قطع حمد الله، وهكذا حتى ينتهي من شربه.
ثالثاً: أن لا يشرب من في السقاء: ورد النهي عن الشرب من ثلمة القدح أو أذنه كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله {عن الشرب من ثلمة القدح وأن ينفخ في الشراب" (24)، أو من في السقاء. فقد روى الشيخان من حديث أبي سعيد رضي الله عنه "أن النبي {نهى عن اختناث الأسقية: أن يشرب من أفواهها"، وفي رواية: "واختناثها: أن يقلب رأسها ثم يشرب منه" (25).
وفي رواية البخاري فسر الاختناث بكسر أفواهها والشرب منه، وفسر الحافظ الكسر بالثني؛ أن يثنيها ويشرب، وليس المقصود به حقيقة الكسر (26). وتفسير الاختناث في كل الروايات مدرج، وليس من أصل الحديث كما بينه الحافظ، وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري وهو راوي الحديث عن عبد الله بن عبد الله عن أبي سعيد.
وذلك لمصلحة الشارب، لأنه لا يدري ما يخرج له، قال أبو هريرة: "نهى النبي {عن الشرب من فيِّ السقاء" رواه البخاري. وفي رواية الإمام أحمد: قال أيوب: "فأنبئت أن رجلاً شرب من في السقاء فخرجت حية" (27).
وفي رواية: "وأن رجلاً قام من الليل إلى سقاءٍ فاختنثه فخرجت عليه منه حية" (28) وروى الطبراني عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم قالا: "يكره أن يشرب من ثلمة القدح وأذن القدح".
رابعاً: عدم التنفس في الإناء: من الأدب: أن لا يتنفس في الإناء، ولا ينفخ فيه؛ لما روى أبو سعيد رضي الله عنه: "أن النبي {نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل: القذاةُ أراها في الإناء، قال: أهرقها، قال: فإني لا أروى من نفس واحد، قال: فأبن القدح إذًا عن فيك" رواه الترمذي وصححه (29).
قال ابن العربي رحمه الله: "قال علماؤنا: هذا من مكارم الأخلاق؛ لئلا يقع فيه من ريق النافخ فيتقذره غيره". ثم قال ابن العربي: "بل هو حرام؛ فإن الإضرار بالغير حرام، فإن فعله في خاصة نفسه ثم ناوله لغيره فليعلمه به؛ لأنه إن كتمه كان من باب الغش وهو حرام" (30).
خامساً: التنفس خارج الإناء ثلاثاً: السنة أن يشرب بثلاثة أنفاس؛ لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي {كان يتنفس في الإناء ثلاثاً ويقول: "هو أروى وأمرأ وأبرأ". وفي رواية: "وأهنأ" (31).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "يؤخذ من ذلك: أنه أقمع للعطش، وأقوى على الهضم، وأقلُّ أثرًا في ضعف الأعضاء، وبرد المعدة" (32).
¥