تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم اتجه أبو حنيفة لعلم الفقه، ولزم حلقة شيخه حماد ابن أبي سليمان شيخ فقهاء الكوفة، وانصرف للفقه بكليته، وأكب على التفقه، وكانت ملازمته لشيخه التي بلغت ثماني عشرة سنة قد أكسبته فقهاً جماً، وما زال يداوم على حضور حلقة شيخه حتى بزّ أقرانه وتجاوز أمثاله وسابقيه، وكان أدبه مع شيخه موضع العجب، فلقد كان يقصده في بيته وينتظره عند الباب حتى يخرج لصلاته وحاجته، فيسأله ويصحبه، وبلغ به الأمر أنه كان إذا جلس في بيته لا يمد رجليه جهة بيت شيخه حماد، وكان إذا صلى دعا لشيخه حماد مع والديه.

واستمر على هذه الحال من الصحبة والملازمة حتى توفي حماد، فاتفق رأي تلامذته على استخلاف أبي حنيفة النعمان مكان شيخه فكان خير خلف لخير سلف، وانتهت إليه رئاسة مدرسة الكوفة التي عرفت بمدرسة الرأي، وأصبح إمام فقهاء العراق غير منازع، وسارت بذكره الركبان، واشتهر في الآفاق، وقد اجتمع بعلماء عصره بالبصرة ومكة، والمدينة، ثم ببغداد لما بناها المنصور، واستفاد منهم، واستفادوا منه، وما زالت شهرته تتسع حتى غدت حلقته مجمعاً علمياً يجتمع فيه من كبار المحدثين كعبدالله بن المبارك، وحفص بن غياث، وغيرهما، مع كبار الفقهاء كأبي يوسف، ومحمد، وزُفر، مع كبار الزهاد كالفضيل ابن عياض، وداود الطائي وغيرهم.

سبب طلبه للفقه:

طلب أبو حنيفة الحديث وأكثر منه في سنة مئة وما بعدها كما قال الذهبي (9).

قلت: ورواياته كما سيأتي قليلة مع أن الذهبي يقول بأنه أكثر من الرواية! ولكن النسائي وهو المتقدم وصفه - كما سيأتي بقلة الرواية - ولعل مراد النسائي من قلة الرواية مقارنة بأقرانه كالثوري وشعبة والأوزاعي ومالك. ويتوجه كلام الذهبي من أن أبا حنيفة أكثر من الرواية من جهة أنه حصل حديثاً كثيراً إلا أنه لم يحدث إلا بما يحفظ كما قال يحيى بن معين، ثم اتجه بكليته للفقه حتى برز وأصبح المقدم فيه وتروى بعض الحكايات في سبب انقطاعه للفقه، فعن زفر بن الهذيل، قال سمعت أبا حنيفة يقول: كنت أنظر في الكلام حتى بلغت فيه مبلغاً يشار إلي فيه بالأصابع، وكنا نجلس بالقرب من حلقة حماد بن أبي سليمان، فجاءتني امرأة يوماً فقالت لي: رجل له امرأة أمة، أراد أن يطلقها للسنة، كم يطلقها؟ فلم أدر ما أقول. فأمرتها أن تسأل حماداً، ثم ترجع تخبرني. فسألته، فقال: يطلقها وهي طاهر من الحيض والجماع تطليقة، ثم اتركها حتى تحيض حيضتين، فإذا اغتسلت فقد حلت للأزواج، فرجعت، فأخبرتني فقلت: لا حاجة لي في الكلام، وأخذت نعلي فجلست إلى حماد، فكنت أسمع مسائله، فأحفظ قوله، ثم يعيدها من الغد فأحفظها، ويخطئ أصحابه، فقال: لا يجلس في صدر الحلقة بحذائي غير أبي حنيفة، فصحبته عشر سنين، ثم نازعتني نفسي الطلب للرئاسة، فأحببت أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي. فخرجت يوماً بالعشي، وعزمي أن أفعل، فلما رأيته لم تطب نفسي أن أعتزله، فجاءه تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاً، وليس له وارث غيره. فأمرني أن أجلس مكانه، فما هو إلا أن خرج حتى وردت عليّ مسائل لم أسمعها منه، فكنت أُجيب وأكتب جوابي، فغاب شهرين ثم قدم، فعرضت عليه المسائل، وكانت نحواً من ستين مسألة، فوافقني في أربعين، وخالفني في عشرين، فآليت على نفسي ألا أفارقه حتى يموت.

قال الحافظ الذهبي متعقباً هذه الحكاية: وهذه أيضاً الله أعلم بصحتها، وما علمنا أن الكلام في ذلك الوقت كان له وجود، والله أعلم (10).

وقال أحمد بن عبدالله العجلي حدثني أبي قال: قال أبو حنيفة: قدمت البصرة فظننت أني لا أسأَلُ عن شيء إلا أجبت فيه، فسألوني عن أشياء لم يكن عندي فيها جواب، فجعلت على نفسي ألا أفارق حماداً حتى يموت فصحبته ثماني عشرة سنة (11).

ثناء العلماء على فقهه وعلمه:

قال علي بن عاصم: لو وُزن علم الإمام أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح بهم. وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه، أدق من الشعر، لا يعيبه إلا جاهل. وقال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة تفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حياً لجالسه.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير