وقال الإمام ابن خزيمة في «صحيحه»: (2/ 86): «فأما ما روى العراقيون أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بالمدينة في غير خوف ولا مطر، فهو غلط وسهو، وخلاف قول أهل الصلاة جميعاً» اهـ.
وقال الإمام البيهقي في «السنن الكبرى»: (3/ 167) ـ بعد ذكره ـ: «رواه مسلم في الصحيح عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره عن أبي معاوية عن أبي كريب وغيره عن وكيع، ولم يخرجه البخاري مع كون حبيب بن أبي ثابت من شرطه، ولعله إنما أعرض عنه ـ والله أعلم ـ لما فيه من الاختلاف على سعيد بن جبير في متنه، ورواية الجماعة عن أبي الزبير أولى أن تكون محفوظة؛ فقد رواه عمرو بن دينار، عن جابر ابن زيد أبي الشعثاء، عن ابن عباس بقريب من معنى رواية مالك عن أبي الزبير» اهـ.
قلت: وتفصيلُ روايَةِ الجماعة عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، بلفظ: «من غيرِ خوفٍ ولا سفَرٍ»، كما يلي:
1ـ مالك في «الموطأ»: (368)، ومن طريقه: مسلم (705)، وأبو داود (1210)، والبيهقي (3/ 166)، وأبو عوانة (2397)، وابن حبان (1594).
2ـ زهير بن معاوية: عند مسلم (705)، وأبي نعيم في «المستخرج»: (1585)، والبيهقي (3/ 166)، والطبراني في «المعجم الكبير»: (12/ 58).
3ـ سفيان الثوري: عند عبد الرزاق (4435)، وأحمد (1/ 283)، وأبي عوانة
(2398)، والطبراني في «الكبير»: (12/ 58)، وابن عبد البر (5/ 492).
4ـ سفيان بن عيينة: عند الحميدي (476)، والبيهقي (3/ 166).
5ـ قرّة بن خالد: عند الطحاوي (968).
6ـ عبد الملك بن جريج: عند الطحاوي (969).
7ـ حمّاد بن سلمة: عند البيهقي (3/ 166).
8 ـ هشام بن سعد: عند البيهقي (3/ 167).
قال البيهقي (3/ 166): «وخالفهم قرة بن خالد عن أبي الزبير، فقال في الحديث: «في سفرةٍ سافرها إلى تبوك».» اهـ.
قلت: يشيرُ إلى ما أخرجه مسلم (705) عن يحيى بن حبيب الحارثي، قال: حدثنا خالد ـ يعني ابن الحارث ـ، حدثنا قُرَّةُ، حدثنا أبو الزبير، حدثنا سعيد بن جبير، حدثنا ابن عباس: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع بين الصلاة في سفرة سافرها، في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء».
قال سعيد: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: «أراد أن لا يحرج أمته».
وهذا وهْمٌ من بعضِ الرواة.
والصَّحِيحُ: ما أخرجه مسلم (706): عن يحيى بن حبيب، قال: حدثنا خالدـ يعني ابن الحارث ـ، حدثنا قُرَّةُ بن خالد، حدثنا أبو الزبير، حدثنا عامر بن واثلة أبو الطُّفيل، حدثنا معاذ بن جبل، قال: «جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في غزوة تبوك بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء».
قال: فقلت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: «أراد أن لا يحرج أمَّته».
وقد تابع قرة بن خالد: مالك في «الموطأ»: (365)، وزهيرٌ بن معاوية عند مسلم (706).
قال البيهقي (3/ 167): «وكان قرة بن خالد أراد حديث أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ فهذا لفظ حديثه، أو روى سعيد بن جبير الحديثين جميعاً فسمع قرة أحدهما ومن تقدم ذكره الآخر وهذه أشبه فقد روى قرة حديث أبي الطفيل أيضاً» اهـ.
وعلى كلِّ حال؛ فقد ثبت وقوع الجمع بالمدينة بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، في غير خوفٍ ولا سَفَرٍ؛ وهو ما سُنَجَلِّي حقيقتَه فيما سيأتي ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي الظهر والعصر.
(2) أي المغرب والعشاء.
(3) أي عمرو بن دينار.
ـ[أبو إبراهيم المكي]ــــــــ[12 - 11 - 08, 08:09 م]ـ
- وجه استدلال المخالفين بحديث ابن عباس:
وهو أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جمع مقيماً بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، جمع تقديمٍ، في غير خوف ولا سفر ولا مطر، فمن باب أولى الجمع للمطر، ونحوه ..
ـ[أبو إبراهيم المكي]ــــــــ[13 - 11 - 08, 09:03 ص]ـ
- نقض استدلال المخالفين:
لقد كان مِنَ الواجبِ على المستدلِّينَ بحديثِ ابن عبَّاسٍ على جوَازِ الجمْعِ في المطَرِ كشف اللِّثام عن وجْهِ دلالتِه الأصوليَّةِ ..
ومعلومٌ أنَّ «أصولَ الفقهِ» هو مَلَكَةُ الاستنباطِ من النُّصوصِ الشرعيَّة، ولله دَرُّ ابْنِ بدرانَ إذ يقول: «واعلم أنَّه لا يمكنُ للطَّالب أن يصيرَ متفقهاً ما لم تكنْ له دِراية بالأصول، ولو قرأ الفقه سنيناً وأعواماً، ومن ادّعى غيرَ ذلك كان كلامُه إمّا جهلاً وإمّا مكابرةً» (1).
وهو ما أغْفلَهُ هؤلاءِ القَوم! واكتفَوْا بالتَّرديدِ خلفَ المستدلِّينَ بالحديثِ على جوازِ الجمْعِ في المطرِ! دون رَويَّةٍ وإعْمالٍ لِلفكْرِ والنَّظرِ!
فأين اتِّباع الدَّليل؟ أَهُوَ ترديد الدَّليل؟! أم فَهْمه على ضَوْءِ «قواعد الاستنباطِ»؟
ــــــــــــــــــــــــ
(1) «المدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل»: (ص/489)، وانظر: «زغل العلم» للذهبي: (ص/21).
¥