وقوله: «كان؛ يجمع بين الصلاتين في السفر» لا يعم وقتيهما، ولا سفر النسك وغيره» (10).
وقال العلامة ابن النجَّار الفتوحي ـ رحمه الله ـ: «(فعله) أي فعلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المثبتُ، وإن انقسم إلى جهات وأقسام، (لا يعمُّ أقسامه وجهاته)؛ لأنَّ الواقع منها لا يكون إلا بعضَ هذه الأقسام.
من ذلك ما روي: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلَّى داخل الكعبة»، فإنَّها احتملت الفرض والنفل، بمعنى أنَّه لا يُتصوَّرُ أنّها فرضٌ ونفْلٌ معاً، فلا يمكن الاستدلال به على جواز الفرض والنفل داخل الكعبة، فلا يعمُّ أقسامه.
(وكان) النبي (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يجمعُ بين الصلاتين في السفر، لا يعمُّ وقْتَيْهِما) أي وقت الصلاة الأولى، ووقت الصلاة الثانية، فإنه يُحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الأولى، ويحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الثانية، والتعيين موقوفٌ على الدليل، فلا يعمّ وقتي الأولى والثانية إذ ليس في نفس وقوع الفعل المرويِّ ما يدلّ على وقوعه في وقْتَيْهما ... » (11).
وقال الإمام الشوكاني ـ رحمه الله ـ: «الفعل المُثْبَتُ إذا كان له جهاتٌ فليس بعامٍّ في أقسامه؛ لأنَّه يقع على صفة واحدة، فإن عُرِفَ تعيَّن وإلا كان مُجْملاً يُتوقَّفُ فيه ..
هكذا قال القاضي أبو بكر، والقفَّال، والشاشي، والأستاذ أبو منصور، والشيخ أبو حامد الإسفراييني، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وسليم الرازي، وابن السَّمعاني، وإمام الحرمين الجُويني، وابن القشيري، والإمام فخر الدين الرازي.
واستدلُّوا على ذلك بأنه إخبارٌ عن فعل، ومعلومٌ أنَّ الفاعلَ لم يفعلْ كلَّ ما اشتمل عليه تسميةُ ذلك الفعل، مما لا يمكن استيعابُ فعلِه، فلا معنى للعموم في ذلك .. » (12).
وقال العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي في كلامه على حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ:
«واعلم أن لفظة «جَمَع» فِعْل في سياق الإثبات، وقد قرّر أئمة الأصول أن الفعل المثبت لا يكون عامّاً في أقسامه.
قال ابن الحاجب في «مختصره الأصولي» في مبحث العام، ما نصّه: «الفعل المثبت لا يكون عامّاً في أقسامه، مثل: «صلّى داخل الكعبة» فلا يعمّ الفرض والنفل ـ إلى أن قال: و «كان يجمع بين الصلاتين» لا يعمّ وقتيهما، وأمّا تكرر الفعل فمستفاد من قول الراوي: «كان يجمع» كقولهم: كان حاتم يكرم الضيف .. إلخ.
قال شارحه العضد ما نصّه: «وإذا قال: «كان يجمع بين الصلاتين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء» فلا يعمّ جمعهما بالتقديم في وقت الأولى، والتأخير في وقت الثانية، وعمومه في الزمان لا يدلّ عليه أيضاً، وربما توهم ذلك من قوله: «كان يفعل». فإنه يفهم منه التكرار، كما إذا قيل: كان حاتم يكرم الضيف، وهو ليس مما ذكرناه في شيء؛ لأنه لا يفهم من الفعل وهو «يجمع» بل من قول الراوي، وهو «كان»، حتى لو قال: «جمع» لزال التوهم» انتهى محل الغرض منه بلفظه بحذف يسير لما لا حاجة إليه في المراد عندنا. فقوله: «حتى لو قال: جمع زال التوهم» يدل على أن قول ابن عباس في الحديث المذكور «جمع» لا يتوهم فيه العموم، وإذن فلا تتعين صورة من صور الجمع إلَّا بدليل منفصل ..
وقال صاحب «جمع الجوامع» عاطفاً على ما لا يفيد العموم ما نصّه: «والفعل المثبت، ونحو: كان يجمع في السفر».
قال شارحه صاحب «الضياء اللامع» ما نصّه:ونحو: كان يجمع في السفر، أي: بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، لا عموم له أيضاً؛ لأنه فعل في سياق الثبوت، فلا يعمّ جمعهما بالتقديم في وقت الأولى، والتأخير إلى وقت الثانية، بهذا فسّر الرهوني كلام ابن الحاجب ـ إلى أن قال: وإنما خص المصنف هذا الفعل الأخير بالذكر مع كونه فعلاً في سياق الثبوت؛ لأن في «كان» معنى زائد، وهو اقتضاؤها مع المضارع التكرار عرفاً، فيتوهم منها العموم، نحو: «كان حاتم يكرم الضيفان» وبهذا صرّح الفهري والرهوني، وذكر ولي الدين عن الإمام في «المحصول» أنها لا تقتضي التكرار عرفاً ولا لغةً.
قال ولي الدين: والفعل في سياق الثبوت لا يعم، كالنكرة المثبتة، إلا أن تكون في معرض الامتنان، كقوله تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهوراً} [الفرقان:48] اهـ من «الضياء اللامع» لابن حلولو.
قال مقيّده ـ عفا الله عنه ـ: وجه كون الفعل في سياق الثبوت لا يعم، هو أن الفعل ينحل عند النحويين، وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن، وينحل عند جماعة من البلاغيين عن مصدر وزمن ونسبة، فالمصدر كامن في معناه إجماعاً، والمصدر الكامن فيه لم يتعرف بمعرف فهو نكرة في المعنى، ومعلوم أن النكرة لا تعم في الإثبات، وعلى هذا جماهير العلماء» (13).
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وهو: تأخير صلاة الظهر إلى آخر وقتها، وتعجيل صلاة العصر في أول وقتها، وكذلك المغرب والعشاء، وبعض العلماء يسميه بـ «الجمع فعلاً»، ويسمي جمع التقديم والتأخيربـ «الجمع وقتاً»؛ ولزاماً انظر: «حاشية السندي على سنن النسائي»: (1/ 309 - 313).
(2) «نيل الأوطار»: (2/ 475).
(3) «شرح الكوكب النير» لابن النجار: (3/ 214).
(4) «نيل الأوطار»: (2/ 475).
(5) «اللمع في أصول الفقه»: (ص/73).
(6) «المرجع السابق»: (ص/80).
(7) «شرح اللمع»: (1/ 336 - 348).
(8) «البحر المحيط»: (3/ 166 - 167).
(9) «المرجع السابق»: (3/ 129).
(10) «أصول الفقه»: (2/ 842 - 843).
(11) «شرح الكوكب المنير»: (3/ 213 - 214).
(12) «إرشاد الفحول»: (1/ 554 - 555).
(13)» أضواء البيان»: (1/ 458 - 460) ـ ط: دار عالم الفوائد.
¥