أما إنهم لبّس عليهم بعضهم فاتبعوه ... فما رأيت أحدا تفوه به هنا أخي الحبيب ... ))) انتهت الرسالةُ.
وهي تشتملُ على أغاليطَ وأوهامٍ، ظن صاحبُها أنها الجوابُ الفصلُ، والقولُ الحسمُ، وهي في الحقيقةِ تسندُ ما أقولُ به وأدَّعيه، وإليكم البيانَ:
أما ما ذُكر عن القاضي عبد الوهاب من أن علةَ كراهة القبض في الفريضة هي الاِعتمادُ، فهو الذي عليه في المذهب الاِعتمادُ، كما نَص عليه غيرُ واحدٍ، قال الدرديرُ في شرح أقرب المسالك (1/ 324):" (وجاز القبضُ)، أي: قبضُهما على الصدر (بنفلٍ) أي: فيه، (وكُره) القبضُ (بفرضٍ؛ للاِعتماد) أي: لما فيه من الاِعتمادِ، أي: كأنه مستنِدٌ ". قال الصاوي في بلغة السالك:" (قولُه: للاِعتماد ... ) هذا التعليلُ لعبد الوهاب، فلو فعَلَه لا للاِعتماد بل استناناً لم يُكرَهْ، وكذا إذا لم يَقصدْ شيئاً فيما يَظهرُ، وهذا التعليلُ هو المعتمَدُ ... "، ثم ذكَر باقيَ الاِحتمالاتِ الخمسةِ وضعَّفَ غالبَها، ثم قال:" ولمّا كان المعوَّلُ عليه العلةَ الأُولى اقتَصر عليها المصنِّفُ ". انتهى كلامُه.
فصريحُ كلامِ عبدِ الوهاب نسبةُ كراهة القبض بقيد الاِعتماد لمالكٍ -رحمه الله- وهذا التأويلُ الذي رجَّحه.
فإذا لم يكن في وضعِ اليمنى على اليسرى اعتمادٌ واستنادٌ، لم يُكرَهِ القبضُ، وهذا يحتملُ الجوازَ والاِستحبابَ اللذَين ذكَرَهما عبدُ الوهاب، وهو ليس محلَّ النزاع هنا، كما أن المذهبَ ليس مع الشيخِ عليش في إطلاقه كراهةَ القبض على أي هيئةٍ كان، كما ذكَر ذلك في شرح المختصَر (1/ 158) وفي فتاويه (1/ 126) لمخالفته ظاهرَ المدوَّنة والمعتمَدَ في المَذهب، كما لا يصحُّ نفيُ القول بالكراهة عن مالكٍ في روايةِ ابن القاسم إذا كان للاِعتماد، وهو معنى كلامِ القاضي عبدِ الوهاب المنقولِ من "الإشراف"؛ لأن كلامَه فيه عن حكم وضع اليمنى على اليسرى لا بقيد الاِعتماد، ورواية الكراهة مقيَّدةٌ بالاِعتماد؛ فلهذا استبْعَدَها من الخلاف لأنها خارجةٌ عنه، بل ظاهرُ عبارته يفيدُ اتفاقَ أهلِ المذهب على الكراهة للاِعتماد، وليست محلَّ خلافٍ، فلذا لم يَذكرْها ضمنَ الروايات. فليُتأملْ.
أما القولُ بأني نسبتُ شيئاً إلى غير أهله، فمعاذ الله، بل يَرجعُ هذا إلى أصل العبارة التي أُخذ منها وهي:" ونسبة القول بكراهة وضع اليمنى على اليسرى إلى الإمام مالك خاصة خطأ محض من قائله " فإنها عبارةٌ مطلَقةٌ لا تصحُّ لإفادتها أن مالكاً لا يقول بكراهة القبض في الفرض حالَ الاِعتمادِ، وليس كذلك، فصوابُها أن يقيَّدَ نفيُ نسبةِ الكراهةِ في الفرض بغير وجهِ الاِعتماد، كما سيظهَرُ لك جلياًّ.
وأما القطعةُ المنقولةُ عن الفقيه ابن عبد السلام -رحمه الله- فهي دُرةٌ نفيسةٌ تشتملُ على فوائدَ لا أُحبُّ أن يخلو منها هذا الجوابُ، -وليس عندي الآنَ من شروح ابن الحاجب شيءٌ-:
منها: أن قولَه:" ينبغي أن يُعدَّ من السنن لصحته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- "، اجتهادٌ حسنٌ من الفقيه ابن عبد السلامِ أعتقدُه وأَعمَلُ عليه، ولكنه ليس نقلاً للمذهب، بل فيه إفادةُ أن القولَ بالسنة ليس هو المذهبَ.
ومنها: أن قولَه:" وما ذكَره المؤلفُ على المدونة فيه نظرٌ؛ إذ قال فيها بإثر المسألة: يعين بهما نفسه، فقصر بعضهم الكراهة على ذلك، أعني إذا كان قصده الاعتماد، و هو القول الرّابع من نقل المؤلّف، و القول الثّالث و الرّابع تأويلان على المدوّنة "، ليس نظراً في أصل حُكم الكراهة عن مالكٍ، بل في جعلِ التأويلات التي على المدونة أقوالاً، وهو نظرٌ صحيحٌ؛ فإن هذه تأويلاتٌ ومحاملُ وليست أقوالاً في المسألة كما اعتَقد ابن الحاجب، ولذلك قال ابن عبد السلام في آخر كلامه:" والقولُ الثالثُ والرابعُ تأويلانِ على المدوَّنة ".
ومنها: أن قولَ مالكٍ في المدوَّنة:" يُعِينُ به نفسَه "، هكذا في نُسَخ المدوَّنة بإفراد الضمير "به"؛ لِعَوده على لفظ الوضع.
ومنها: أن قولَه:" يُعين به نفسَه "، يفيدُ أنه إذا لم يَطُلِ القيامُ في صلاة النافلة فإن في ذلك بأساً.
كما أن في قول ابن القاسم:" قال: -أي: مالكٌ-: لا أَعرفُ ذلك في الفريضة وكان يَكرَهُه "، نفياً لتأويلِ كراهة القبض في الفرض بأي شيءٍ غيرِ الكراهة، فإنها نصٌّ في المسألةِ.
وبهذا يتينُ أنه ليس في كلام الفقيه ابن عبد السلام نفيٌ لأصل نسبة القول بالكراهة في الفريضة لمالكٍ، هذا ما فهِمتُه من عبارته التي طُلب مني أن أَنظُرَ فيها وأتأملَ، فإن هذا مبلغُ علمي، ومَن فَهِم غيرَ هذا مما يدل على نفي نسبة القول بكراهة القبض في الفريضة للاِعتماد لمالك فليُبرِزْ إلينا فهْمَه، وله من الله المثوبةُ والأجرُ.
وأما كلامُ الإمام الباجي فهو صنوُ كلام القاضي عبد الوهاب -رحمهما الله تعالى-، ليس فيه نفيٌ لنسبة الكراهة بقصد الاِعتماد في وضع اليمنى على اليسرى إلى مالكٍ، وهو ما فهمتُه من صنيع المحقِّق الأمير في مختصره الفريد المعروفِ بالمجموع، عطفاً على المندوبات (1/ 170):" وقبضُ يديه إن تَسنَّنَ فوقَ سُرّةٍ، وجاز لاعتمادٍ بنفلٍ، وكُره بفرضٍ ". وقد أجاد -رحمه الله- أحسَنَ الإجادةِ، وهو في نظري أفضلُ من اختصَر المسألةَ من أصحاب المختصَرات على الإطلاق.
ثم إن ما سطَّرتُه هنا من التعليق على كلام الأئمة فهو من فكريَ القاصر، وذهنيَ الفاتر، أبرزتُه ليكونَ عُرضةً للنظر من ذوي العلم والاِختصاص، والتأمل الصحيح ومن يُحسنون فهْمَ كلام الأئمة. (وفوق كل ذي علمٍ عليمٌ) (والاِعتدالُ حِليةُ الرجال) وبهذا فإنه لم يَظهرْ لي إلى الآنَ من ينفي عن مالكٍ -رحمه الله- كراهةَ القبض في الفرض للاِعتماد. واللهُ أعلمُ.
¥