و إذا فُرِضَ جَدَلاً صحّة ما ذَكره السائل من عَدَم وُجود مفتٍ مؤَهّل موثوقٍ في دينه و منهجه يُرجَعُ إليه في بَلدٍ ما وجبَ على أهل ذلك البلد أن ينتدبوا منهم من يطلُب العلم، و ذلك في حقّهم واجبٌ على الكفاية؛ إن قام به من يكفي فبها و نِعمَت، و إلا لَحِقَهُم الإثم جميعاً، قال تعالى: (فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة: 122].
و إلى أن يقوم بينَ ظهرانيهم من تقوم به الحجّة، و تتضح بفتاواه معالمُ المَحَجَّة يَجب عليهم ردُّ ما وقع فيه الخلاف بينهم إلى من عُرِف بذلك من أهل العلم و لو كان مُقيماً في ديارٍ غير ديارهم.
و ينبغي لمن يُتَّخذُ مفتِياً أن يكون معروفاً إلى جانبِ علمِه بتزكيةِ العلماء له، و ثنائهم عليه، و شهادَتهم بكفاءته.
قال الإمام مالك رحمه الله: ما أفتيت حتى شهِدَ لي سبعون أني أهلٌ لذلك)، و في روايةٍ: (ما أفتيتُ حتى سألتُ من هو أعلم مني: هل يراني موضعاً لذلك؟)، و قال أيضاً: (لا ينبغي لرجُلٍ أن يرى نفسَه أهلا لشيءٍ، حتى يَسألَ من هو أعلم منه) [آداب الفتوى للنووي ص: 18].
أمّا اتّخاذ التيسير منهجاً في الفتوى، على النحو الذي نراه اليَوم من بعض المشائخ، فهو ممّا عمّت به البلوى، و ابتلي به كثير من المسلمين، و بخاصةٍ أولئك الذين اجتمعت عليهم غربةُ الزمان و المكان في الغرب، و في النفس من هذا المنهج أشياءٌ و أشياءٌ.
و هاهُنا جُملة مسائل ذات صلةٍ بموضوع التساهل و التيسير في الفُتيا أرى لزاماً عليّ بيانُها في هذا المقام، إذ إنّ تأخير البيان عن وقتِ الحاجة لا يجوز شرعاً، و لا يسوغ عقلاً، و من أراد الاستزادة أحَلنَاهُ إلى كُتُب الأقدمين، و إن أرادَ خُلاصتها فعليه برسالتنا المسمّاة (الفتاوى المُعاصرة .. بين التيسير و المسايرة) ففيها مزيد بيان للمسائل التالية و غيرها:
المسألة الأولى:
الإفتاء منصب خطير، و لذلك كان أورَعُ الناس أزهدَهم فيه، و إذا كان الأجرؤ على الفتوى الأجرأَ على النار، فلا غَروَ في أن يعزُفَ عنها خيار السلفِ و الخَلَف، ما لم تصير عليهم مُتعيّنةً، خشيةً أن يشملهم عموم قول الله عز و جلَّ: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَ حَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) [يونس: 59].
قال أبو القاسم الزمخشري رحمه الله: (كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوُّز فيما يُسأل عنه من الأحكام، و باعثةً على وجوب الاحتياط فيه، و أن لا يقول أحد في شيءٍ جائزٍ أو غيرَ جائزٍ؛ إلا بعد إيقانٍ و إتقانٍ، و من لم يوقِن فليتَّق الله، و ليصمِت، و إلا فهو مفترٍ على الله) [الكشّاف: 2/ 242].
و أخرج الدار مي في مقدّمة سننه عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى جَعْفَرٍ مرسلاً أنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَأُكُمْ عَلَى النَّارِ».
و قال الإمام النووي رحمه الله: اعلم أن الإفتاء عظيم الخطر كبير المَوقِع، كثيرُ الفضلِ؛ لأن المفتي وارثُ الأنبياءِ صلوات الله و سلامه عليهم و قائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ.
و لهذا قالوا: المفتي مُوقِّعٌ عن الله تعالى، و رُوِّينا عن ابنِ المُنكدِر قال: العالمُ بينَ اللهِ تعالى و خَلْقِهِ، فلينظُر كيف يدخُل بينَهم، و رُوِّينا عن السلف و فضلاء الخَلَف مِنَ التوقُّف عن الفُتيا أشياء كثيرة معروفة نذكر منها أحرُفا تبركاً و رُوّينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال أدركت مائةً و عشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يُسأل أحدهم عن المسألة؛ فيردها هذا إلى هذا و هذا إلى هذا حتى ترجِعَ إلى الأول، و في روايةٍ: ما مِنهُم من يُحدِّث بحديث إلا وَدَّ أن أخاهُ كفاهُ إيَّاهُ، و لا يُستفتَى عن شيءٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا، و عن ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهم: من أَفْتَى في كُلِّ ما يُسأل فهو مجنون، و عن الشَّعبي، و الحَسَن، و أبي حُصَين التابعِيَّيْن قالوا: إنَّ أحدكم ليُفتي في
¥