بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل سورة تبين ما فى قلوبهم من النفاق وتكلموا بالإستهزاء صاروا كافرين بعد إيمانهم.
ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين، وقد قال تعالى: ((يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير @ يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما فى الدنيا والآخرة)).
فهنا قال: ((وكفروا بعد إسلامهم))؛ فهذا الإسلام قد يكون من جنس إسلام الأعراب.
فيكون قوله: ((بعد إيمانهم))، و ((بعد إسلامهم)) سواء.
وقد يكونون ما زالوا منافقين؛ فلم يكن لهم حال كان معهم فيها من الإيمان شيء لكونهم أظهروا الكفر والردة.
ولهذا دعاهم الى التوبة فقال: ((فإن يتوبوا يك خير لهم وان يتولوا))، بعد التوبة عن التوبة ((يعذبهم عذابا أليما فى الدنيا والآخرة)).
وهذا انما هو لمن أظهر الكفر؛ فيجاهده الرسول بإقامة الحد والعقوبة.
ولهذا ذكر هذا فى سياق قوله: ((جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم)، ولهذا قال فى تمامها: ((وما لهم فى الأرض من ولى ولا نصير)).
وهؤلاء الصنف الذين كفروا بعد اسلامهم غير الذين كفروا بعد إيمانهم!
فإن هؤلاء حلفوا بالله ما قالوا، وقد قالوا كلمة الكفر التى كفروا بها بعد اسلامهم، وهموا بما لم ينالوا.
وهو يدل على أنهم سعوا فى ذلك فلم يصلوا إلى مقصودهم.
فإنه لم يقل: (هموا بما لم يفعلوا)؛ لكن: (بما لم ينالوا).
فصدر منهم قول وفعل.
قال تعالى: ((ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب))؛ فاعترفوا، واعتذروا!
ولهذا قيل: ((لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم ان نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين)).
فدلَّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا؛ بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر؛ فبين أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد ايمانه.
فدل على أنه كان عندهم ايمان ضعيف؛ ففعلوا هذا المحرم الذى عرفوا أنه محرم، ولكن لم يظنوه كفراً، وكان كفرا كفروا به؛ فإنهم لم يعتقدوا جوازه.
وهكذا قال غير واحد من السلف فى صفة المنافقين الذين ضرب لهم المثل فى سورة البقرة أنهم أبصروا ثم عموا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا.
وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضرب المثل لاقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول وذهاب نورهم؛ قال: ((مثلهم كمثل الذى استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم فى ظلمات لا يبصرون @ صم بكم عمى فهم لا يرجعون)) ...
إلى أن قال رحمه الله (7/ 279 - 281): ((فتبين أن من المنافقين من كان آمن ثم كفر باطناً.
وهذا مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسير؛ أنه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجرى ذلك لأسباب.
منها أمر القبلة لما حولت ارتد عن الايمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس؛ قال تعالى: ((وما جعلنا القبلة التى كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله)).
... فلم نكن لنجعلها لك قبلة دائمة ولكن جعلناها أولا قبلة لنمتحن بتحويلك عنها الناس؛ فيتبين من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
فكان فى شرعها هذه الحكمة.
وكذلك ايضا لما انهزم المسلمون يوم أحد، وشج وجه النبى صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته ارتد طائفة نافقوا؛ قال تعالى: ((ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون ان كنتم مؤمنين أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين @ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)).
وقال تعالى: ((وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين @ وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا فى سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم هم للكفر يومئذ أقرب منهم للايمان يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم والله أعلم بما يكتمون)).
فقوله: ((وليعلم الذين نافقوا)) ظاهر فيمن أحدث نفاقاً، وهو يتناول من لم ينافق قبل، ومن نافق ثم جدد نفاقا ثانياً.
وقوله: ((هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان)) يبين أنهم لم يكونوا قبل ذلك أقرب منهم.
بل اما أن يتساويا.
وإما أن يكونوا للايمان أقرب؛ وكذلك كان!!
... وفى الجملة .. ففى الأخبار عمن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره هنا.
فأولئك كانوا مسلمين وكان معهم إيمان؛ هو الضوء الذى ضرب الله به المثل.
فلو ماتوا قبل المحنة والنفاق ماتوا على هذا الاسلام الذى يثابون عليه، ولم يكونوا من المؤمنين حقا الذين امتحنوا فثبتوا على الايمان، ولا من المنافقين حقا الذين ارتدوا عن الايمان بالمحنة.
وهذا حال كثير من المسلمين فى زماننا أو أكثرهم؛ إذا ابتلوا بالمحن التى يتضعضع فيها أهل الايمان ينقص ايمانهم كثيراً، وينافق أكثرهم، أو كثير منهم، ومنهم من يظهر الردة إذا كان العدو غالباً.
وقد رأينا ورأى غيرنا من هذا ما فيه عبرة!!!
وإذا كانت العافية أو كان المسلمون ظاهرين على عدوهم كانوا مسلمين، وهم مؤمنون بالرسول باطنا وظاهراً؛ لكن إيمانا لا يثبت على المحنة ... )) الخ.
¥