قال الشيخ أحمد بن عبدالرحمن البنا معلقا على هذا الحديث الصحيح: (وفيه أنه لا يجوز نصبَ فسطاط كالسرادق و الخيمة ونحو ذلك لأجل اجتماع الناس فيه للتعزية، و لا اتباع الجنازة بنار فإن ذلك من عوائد الجهال ومن لا دين لهم ومما نهى الشرع عنه وذم فاعله، ومع ذلك فلا تزال هذه العادة باقية عند الناس إلى الآن فلا حول ولا قوة إلا بالله).
- وقال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ في مسألة قصد التعزية، والذهاب إلى أهل الميت في بيتهم قال: (هذا ليس له أصل من السنة، ولكن إذا كان الإنسان قريبا لك وتخشى أن يكون من القطيعة ألا تذهب إليهم فلا حرج أن تذهب، ولكن بالنسبة لأهل الميت لا يشرع لهم الاجتماع في البيت، وتلقي المعزين لأن هذا عده بعض السلف من النياحة، وإنما يغلقون البيت، ومن صادفهم في السوق أو في المسجد عزاهم.
فهاهنا أمران:
الأول: الذهاب إلى أهل الميت، وهذا ليس بمشروع اللهم إلا كما قلت إذا كان من الأقارب ويخشى أن يكون ترك ذلك قطيعة.
الثاني: الجلوس لاستقبال المعزين. وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة) ().
وقد ذُكر المنع عن بعض العلماء ولم أورد كلامهم هنا لأنهم إما نقلوا عمن قبلهم، واستدلوا على قولهم بما سبق، فلعل فيما ذكر كفاية.
القول الثاني:
أن الجلوس للتعزية ـ ذات الجلوس ـ ليس فيه بأس إذا خلا المجلس من المنكرات والبدع، ومن تجديد الحزن وإدامته، ومن تكلفة المؤنة على أهل الميت.
واستدلوا لهذا القول بأدلة منها:
أ- حديث عائشة ?ا في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن ـ إلا أهلها وخاصتها ـ أمرت ببُرْمَةٍ من تَلبينة فطبِخَت, ثمّ صنع ثريدٌ فصُبّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كلنَ منها, فإِنّي سمعت رسول الله ? يقول: "التّلبينة مَجمّةٌ لفؤاد المريض, تَذهبُ ببعضِ الحُزْن" ().وهذا لفظ البخاري.
ب- واستدلوا أيضاً بما روته أم المؤمنين عائشة ?ا قالت: (لما جاء النبي ? قتلُ ابن حارثة و جعفر وابن رواحة جلسَ يُعرفُ فيه الحُزنُ، وأنا أنظرُ من صائر الباب شق الباب، فأتاه رجلٌ فقال: إن نساء جعفر – وذكر بكاءهن – فأمره أن ينهاهن فذهب، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنهَهُن، فأتاه الثالثة قال: والله غلبننا يا رسول الله، فزعمت أنه قال:"فاحثُ في أفواههن التراب"، فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله ? ولم تترك رسول الله ? من العناء) ().
قال الحافظ ابن حجر (ت852هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار) ().
ج- ومما يدل على جواز الاجتماع للتعزية، أن الاجتماع للعزاء من العادات، وليس من العبادات، وهذا ظاهر من حديث أم المؤمنين عائشة ?ا: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن .. الحديث) ().
فقول: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك) أنه كان عادة عندهم، ولم أرى أحدا من العلماء ـ مع بحثي القاصر ـ قال: إن الاجتماع للعزاء عبادة، ومعلوم أن البدع لا تكون في العادات المحضة، إلا إذا قصد بها التقرب إلى الله تعالى وليس لها أصل في الشرع فهذه العادة تصبح بدعة.
ولذا يشير شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ بقوله: ( .. أن اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله بدعة) ()، ومعلوم أن لبس الصوف الأصل فيه الإباحة لأنه من العادات، لكن قصد به التقرب إلى الله تعالى فصار بدعة؛ ويُعلم إنما تدخل البدعة في العبادات، فكيف يقال إن الاجتماع من البدع.
وإذا عُلم أن التعزية سنة مشروعة، فإن البدعة لا تحيي سنة، قال إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبي محمد البربهاري (): (واعلم أن الناس لم يبتدعوا بدعة قط حتى تركوا من السنة مثلها، فالحذر من المحدثات من الأمور) ().
فإذا تقرر أن الاجتماع للعزاء من العادات، فإن الأصل في العادات الإباحة.
قال الحافظ في الفتح في تعريف العادة: (ما استقر في الأنفس السليمة والطبائع المستقيمة من المعاملات) ().
¥