فالعادات الباب فيها مفتوح - ولله الحمد - وهو خاضع لأعراف الناس، فكل عادة انتشرت بين الناس وتعارفوا عليها من فعلٍ أو قولٍ أو أكل أو شرب أو غيرها من الملبوسات والمفروشات ونحوها، فالأصل فيها الحل والإباحة لكن هذه الإباحة مقيدة بما إذا لم تخالف هذه العادة دليلاً شرعيًا فإن خالفت الدليل فهي عادة محرمة يجب إنكارها، أما إذا لم تخالف دليلاً فالأصل التوسعة على الناس، فلا يجوز لأحدٍ كائنٍ من كان أن يضيق على الناس فيما اعتادوه وتعارفوا عليه إلا بدليل، وأنت ترى اختلاف الناس من قطرٍ إلى قطرٍ، بل إن من قواعد الشريعة أن العادة محكمة، أي تؤخذ الأحكام الشرعية بناءً على العادات المتقررة عندهم، فالعبادات بابها توقيفي إلا بدليل والعادات بابها مفتوح إلا بدليل ولله الحمد والمنة.
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي (ت1376هـ) في منظومته ():
والأصل في عاداتنا الإباحة حتى يجيء صارف الإباحة
فيؤخذ من هذا البيت قاعدة فقهية مهمة وهي:" أن الأصل في العادات والمعاملات الإباحة والحل".
والأصل في هذه القاعدة: ما ورد عن عائشة رضي الله عنها، وعن أنس ?:"أن النبي ? مر بقوم يلقحون فقال: "لو لم تفعلوا لصلح" قال فخرج شيصاً ()، فمر بهم فقال: ما لنخلكم قالوا: قلت: كذا وكذا قال أنتم أعلم بأمر دنياكم" ().
ووجه الدلالة: أن النبي ? ردَّ الأمر في التعامل في الزراعة إلى الخلق، وجعله ليس من جنس الشرع الذي يتوقف فيه حتى يأتي الأمر من الرب سبحانه وتعالى.
وقد حكى الاتفاق على هذا الأصل غير واحد من العلماء، كالنووي في المجموع، والموفق ابن قدامة في المغني.
وليعلم أن المعاملات والعادات باقية على الأصل ما لم تخالف أصلاً شرعياً، أو يأتي الصارف الشرعي لذلك، ومن ذلك شرب الخمر، فهو من جنس العادات التي حرمها الرب سبحانه ().
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به، وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله) ().
ومما يعين على فقه هذه المسألة ما يلي: هل الوسيلة للمشروع مشروعة؟
نعم هذه القاعد مفهومة من القاعدة الفقهية، كل وسيلة فإن حكمها حكم مقصدها، أو الوسائل لها أحكام المقاصد، أو الوسائل تعطى أحكام المقاصد.
اعلم – رحمك الله تعالى – أن هذه الشريعة كاملة لا نقص فيها بوجه من الوجوه، ولا يخرج عنها شيء من الأشياء يحتاجه الناس في عباداتهم أو معاملاتهم إلا وله فيها حكم شرعي، ويفرق بين كونه وسيلةً أو مقصدًا، فإن كان مقصدًا من المقاصد فحكمه واضح؛ لأن الشريعة حرصت على تبيين أحكام المقاصد، وإن كان وسيلة فإنه يكون تابعًا لحكم قصده، فإن كان يقصد به حرامًا فهو حرام، وإن كان يقصد به واجبًا لا يتم إلا به فهو واجب، وإن كان يقصد به سنة فهو سنة، أو مكروهًا فهو مكروه أو مباحًا فهو مباح، ولا يخرج شيء عن هذه الأحكام الخمسة، وهذا من كمال الشريعة، فإنها إذا حرمت شيئًا حرمت جميع الوسائل المفضية إليه وإذا أوجبت شيئًا أوجبت جميع الوسائل التي لا يتم إلا بها وهكذا، ذلك لأن من تمام تحريم الشيء تحريم وسائله وسد جميع ذرائعه، ومن تمام إيجاب الشيء إيجاب جميع الأشياء التي يتوقف حصوله عليها، فيدخل تحت هذا الأصل الكبير قواعد كثيرة.
ومعلوم أن الوسائل إذا كان لها حكم مستقل في الشريعة، بالوجوب أو بالتحريم، فإنها تأخذ حكمها الأصلي في الشريعة ().
أما إذا لم يرد دليلٌ يخص تلك الوسيلة ـ مثل مسألتنا هذه ـ فننظر إلى هذه الوسيلة هل هي وسيلة مفضية إلى المقصود قطعاً، فهذه تأخذ حكم المقصود، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
فإن التعزية مقصد، لما ورد من مشروعيتها، وفضلها، ولا وسيلة لتحصيلها في مثل هذه الأزمنة إلا باستقبال المعزين، والجلوس لاستقبالهم، فإن ذلك يعينه على أداء السنة.
وقد فهم مثل هذا التخريج على هذه القاعدة الشيخ عبدالعزيز بن باز (ت1420هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ فقال عن استقبال المعزين والجلوس للتعزية: (لا أعلم بأساً فيمن نزلت به مصيبة بموت قريب، أو زوجة، ونحو ذلك أن يستقبل المعزين في بيته في الوقت المناسب، لأن التعزية سنة، واستقبال المعزين مما يعينهم على أداء السنة؛ وإذا أكرمهم بالقهوة، أو الشاي، أو الطيب، فكل ذلك حسن) ().
¥