وقال الشيخ محمد بن عثيمين (ت1421هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ عند حديثه عن حكم قصد التعزية والذهاب لأهل الميت في بيتهم (): (الجلوس لاستقبال المعزين، وهذا لا أصل له، بل عده بعض السلف مع صنع الطعام من النياحة) ().
وهذا فقه حديث جرير بن عبدالله البجلي ?.
أما الجلوس للتعزية فقط فهذا لا يُعلم أن أحدا من السلف قال: إنه من النياحة وحده، أو أنه نهي عنه، بل حديث عائشة رضي الله عنها الذي استدل به أصحاب القول الثاني يرده.
والعلماء من أئمة أهل السنة، والحديث حينما نهوا، نهوا عن الأمرين مجتمعين.
2 - وأما ما استدلوا به من استقراء حال السلف، بأنهم لم يكونوا يجلسون ويجتمعون للعزاء ()، فهذا الاستقراء فيما يظهر مردود من وجوه:
أ- حديث عائشة ?ا في الصحيحين: (أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن ـ إلا أهلها وخاصتها ـ أمرت ببُرْمَةٍ من تَلبينة فطبِخَت, ثمّ صنع ثريدٌ فصُبّتِ التّلْبينَةُ عليها ثم قالت: كلنَ منها, فإِنّي سمعت رسول الله ? يقول: "التّلبينة مَجمّةٌ لفؤاد المريض, تَذهبُ ببعضِ الحُزْن" ().وهذا لفظ البخاري.
فهذا الحديث فيه الدلالة على أنهم كانوا لا يرون في الاجتماع بأساً، لا اجتماع أهل الميت، ولا اجتماع غيرهم معهم، ففي الحديث "أنها كانت إذا مات الميت " فهذا يدل على أنها كانت عادة عندهم، إذا مات الميت اجتمع لذلك أهل الميت، وفي الحديث "ثم يتفرقون" ولا يتفرقون إلا بعد اجتماع، ويبقى أهلها وخاصتها، مما يدل على أن غيرهم كان معهم ثم ذهب، كما أن أهل الميت يصنعون لأنفسهم طعاماً، فهو من صنعة الطعام.
وأما تخصيص الاجتماع للنساء دون الرجال، فليس فيه دليل، فالحديث ورد في حالهم إذا مات الميت، والنبي ? يقول كما في حديث أم المؤمنين عائشة ?ا قالت: سئل رسول الله ? عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما؛ قال:" يغتسل"، وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولم يجد بللا؛ قال:" لا غسل عليه" قالت أم سلمة ?ا يا رسول الله هل على المرأة ترى ذلك غسل؟ قال:" نعم إن النساء شقائق الرجال" ().
قال العظيم أبادي (ت1322هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (قال ابن الأثير: أي نظائرهم وأمثالهم كأنهن شققن منهم، ولأن حواء خلقت من آدم ?، وشقيق الرجل أخوه من أبيه ولأمه، لأنه شق نسبه من نسبه، قال الخطابي: وفيه من الفقه إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، فإن الخطاب إذا ورد بلفظ المذكر كان خطاباً للنساء إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها) ().
ومما يرد الخصوصية أيضاً أنه لو كان الاجتماع مباحاً للنساء فقط لكان للرجال من باب أولى، لضعف طبيعة المرأة، ولأن الطقوس، والنياحة والجزع وغيرها في جانب النساء أكثر.
ثم إن اجتماع النساء يورث بعض المفاسد، كتجمعهن وخروجهن وتعرضهن للرجال وغيرها، والمرأة بيتها خير لها.
فإذا جاز الاجتماع في العزاء للنساء ففي الرجال من باب أولى.
ومما يستأنس به هنا ـ وإن كان الحديث ضعيفاً ـ من أن السلف كانوا يذهبون للتعزية، ويُعزى أهل الميت في بيتهم، ما جاء من حديث عبدالله بن عمرو ?ما قال: بينما نحن نسير مع رسول الله ? إذ بصر بامرأة لا تظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف حتى انتهت إليه فإذا فاطمة بنت رسول الله ? قال لها:" ما أخرجك من بيتك يا فاطمة، قالت: أتيت أهل هذا الميت فترحمت إليهم وعزيتهم بميتهم، قال: لعلك بلغت معهم الْكُدَى، قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر، فقال لها: لو بلغتها معهم ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك" ().
قال السندي (ت1138هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ: (والحديث يدل على مشروعية التعزية، وعلى جواز خروج النساء لها) ().
ففي هذا الحديث أن أهل الميت يبقون في بيتهم ويأتيهم من يريد أن يعزيهم وهذا ظاهر من قول فاطمة ?ا: (أتيت أهل هذا الميت)، ولا يمكن أن تأتيهم إلا في بيتهم.
ومما يدل على اجتماع السلف ما ذكره ابن حجر ـ رحمه الله تعالى ـ في ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله بن عتبة الكوفي المسعودي (ت65هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ من قول أبي النضر هاشم بن القاسم أنه قال: إني لأعرف اليوم الذي اختلط فيه المسعودي، كنا عنده وهو يُعزى في ابن له إذ جاءه إنسان فقال له: إن غلامك أخذ من مالك عشرة آلف وهرب ففزع وقام فدخل في منزله ثم خرج إلينا وقد اختلط) ().
¥