فهذا أبو النضر يذكر أنهم كانوا عند المسعودي وهو يُعزى، مما يدل أنهم كانوا يجتمعون، وأما قيامه ودخوله إلى منزله فسأبينه في النقطة التالية من وصف بيوتات السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ.
ب- هل للسلف ـ رحمهم الله تعالى ـ أن يجتمعوا في بيوتهم؟! إذا علمنا صغرها الشديد، فما كان يعرف عن السلف كبر منازلهم.
وحسبك مثالاً بيت محمد ? فقد كان بيته حجرة واحدة ? ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي اللَّهُ عنها قالت: (بِئسما عَدَلْتُمُونَا بالكلب والحمار لقد رأَيتُني ورسول اللَّه ? يُصلِّي وأنا مضطجعة بينه وبينَ القبلة فإذا أراد أن يسجد غمزَ رجلَيَّ فقبضتُهُما) ().
فهذا بيت النبي ? مثالاً لتقيس عليه ـ ولو على وجه التقرب ـ باقي منازل الناس في تلك الأزمان.
ج- أن السلف ـ رحمهم الله تعالى ـ كانوا يسكنون في قرى، ومدن صغيرة متقاربة، يمكن معها مقابلة المصاب، ولقياه سهلة متيسرة، فإن لم يوجد في بيته وجد في مسجد قريته الوحيد، وإذا لم يجده في مسجده وجده في السوق الوحيد وهكذا؛ لكن هل ينضبط هذا في زماننا هذا لمن أراد الوصول للتعزية، وللمواساة؟!
وأنت ترى ترامي أطراف الديار، وكبرها، وكثرت مساجدها وأسواقها، فإذا أردت تعزيته فليس لك إلا لقياه في بيته، فإذا لم تجده فإنه يصعب عليك بعد ذلك مقابلته وتعزيته، بل كيف تعزي أهل المصاب إذا كانوا كثير، والبيوت متباعدة، والدور متباينة، والأعمال متفرقة والأسواق كثيرة، والأوقات ضيقة.
إذن فعلى قول من يقول بكراهة الجلوس، أو عدم مشروعيته، إذا أراد أن يعزي أهل المصاب، فما عليه إلا أن يفرغ من وقته أياماً، ويترك بعض أعماله، لكي يقابل هذا في عمله، وهذا في سوقه، وهذا في متجره، وهذا في مسجده. وهذا لا يمكن، ولا يتيسر، وفيه مشقة على العبد، والشريعة جاءت لنفي الحرج، ورفع المشقة، واليسر والسهولة، قال الله تعالى:?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ? ()، وقال ?:? وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? ().
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي (ت1376هـ) في منظومته ():
ومن قواعد الشريعة التيسيرُ في كلِّ أمرٍ نابه تعسيرُ
قال ـ رحمه الله تعالى ـ في شرحه لهذا البيت: (ومن التخفيفات أيضاً: أعذار الجمعة والجماعة، وتعجيل الزكاة، والتخفيفات في العبادات، والمعاملات، والمناكحات، والجنايات) ().
فقوله ـ رحمه الله تعالى ـ (في المعاملات) فإن تعزية الناس ومواساتهم من المعاملات.
فلا حلَّ هنا إلا أن يجتمع أهل المصاب ليعزيهم أحبابهم، والناس الراغبين في الأجر، ومواساة المصاب، ثم ينصرفون إلى شأنهم.
وقد سبق نقل الجواز في ذلك من كلام العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ.
د- عدم نقل اجتماعهم إلينا لا يدل على عدم حصوله، بل يحتمل حصوله ولم ينقل.
هـ- ما عرف عن مواساة السلف لبعضهم، وتكافلهم ومواقفهم المشرفة، يلزم منه وقوفهم بجانب أهل المتوفى في أحرج المواقف لتصبيره ومواساته فهذا خلقهم الكريم.
ولا أدل على ذلك من تزاحمهم على بيت عمر ? بعد إصابته، وقبل وموته، وبعد موته حتى دفنه ? وتعزية ابنه وأم المؤمنين حفصة رضي الله تعالى عنهم؛ أفلا يقبلون لتسلية أخيهم المصاب؟! فهذا واقعهم ولو لم ينقل إلينا.
وقد يقول قائل ويحتج محتج بأن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم ينقل عنهم أنهم اجتمعوا بعد موت النبي ?.
فالجواب عنه: أن النبي ?لما مات كانت مصيبته على جميع المسلمين، وفي كل بيت، فكل بيت له مكان عزاء ?، وكل شخص مصاب ويستحق العزاء، ولهذا لم يجتمعوا.
وهذا ظاهر فعندما يموت عظيم من عظماء هذه الأمة، فإن مصابه في كل بيت، فهؤلاء العظماء والعلماء والمجاهدون يموتون فتكون مصيبتهم في كل بيت، ويعزي المسلمون بعضهم بعضاً على ذلك الفقيد.
أما الإنسان العادي فعزاؤه يدخل بيت أهله فقط، لأنهم من أصيب به فقط.
3 - وأما ما استدلوا به من أن الاجتماع للتعزية فيه تجديد للحزن، وإدامته، وهذا لا يجوز لأنه يخالف الحكمة من التعزية، وهي المواساة والتسلية، لا التذكير بالمصيبة، وتجديد الحزن.
¥