فليُعلم أن التعزية ما شرعت إلا لمواساة المصاب، وإذهاب الحزن عنه، وتسليته مما هو فيه، وقد سبق الحديث في مبحث (مشروعية التعزية والمواساة والحكمة منها) ما يكفي ويشفي، ويبن الحكمة والهدف من التعزية ()، فإذا كان غير ذلك فلا أحد يقول بجواز هذا الفعل، لأن الشريعة جاءت بالإتلاف والاعتصام والمحبة ()، وهذه من أعظم ما امتن الله به على عباده قال ?: ? وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? ()، ومن أعظم صفات أهل الإيمان الحب والموالاة للمؤمنين، والبغض والبراءة من الكافرين، ولا يكون الحب والموالاة إلا بالإتلاف وكون أهل الإسلام جسداً وحداً، يرأف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضاً، قال ?: ? مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ? ().
فإن من أساسات الرحمة، والمحبة إدخال السرور على قلب المسلم، فإن من أعظم القرب التي يتقرب بها العبد إلى الله ـ تعالى ـ في تعامله مع المسلمين سرور يدخله على قلب أخيه المسلم، لا إدخال الحزن والهم عليه، فإذا كان الجلوس لتجديد الحزن، فلا يقول أحد بجوازه، لعدم موافقته لأصول هذه الشريعة المحمدية.
قال الشيخ محمد بن محمد المنبجي الحنبلي (ت 785هـ): (إن كان الاجتماع فيه موعظة للمعزي بالصبر والرضا وحصل له من الهيئة الاجتماعية تسلية بتذاكرهم آيات الصبر، وأحاديث الصبر والرضا فلا بأس بالاجتماع على هذه الصفة، فإن التعزية سنة سنها رسول الله ? .. ) ().
بل من كان يحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فعليه أن يأتي الناس بما يحب أن يأتوه به، فهم في هذا الموطن يحبون أن يأتي إليهم الناس معزين ومواسين، لا شاتمين ومجددي محزنة، فقد قال ? كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص ?ما يرفعه "فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ " ().
قال الإمام النووي (ت676هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ شارحاً ومعلقاً على قوله ? " وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ ": (هذا من جوامع كلمه ? وبديع حكمه، وهذه قاعدة مهمة فينبغي الاعتناء بها، وأن الإنسان يلزم أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه) ().
4 - أن الاجتماع للتعزية يحصل فيه بدع ومخالفات شرعية، كصنع الطعام من أهل الميت للناس، والنياحة، وغيرها وكل هذا محرم ولا يجوز.
فالجواب عنه: أنه إذا وجد المنكر في أي مكان كان، سواءً كان في مجلس التعزية أو غيره، فإنه لا يجوز الجلوس فيه بعد النكير على أهل المنكر، وذلك متقرر بقوله تعالى:?وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا? ().
قال الإمام القرطبي عند قوله ?: ? إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ?: (فكل من جلس في مجلس معصية، ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية، وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية) ().
وقال أيضاً: (وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى) ().
قال الإمام النووي (ت 676هـ) ـ رحمه الله تعالى ـ عند حديثه عن الجلوس للتعزية، وبعد نقله لرأي مذهب الشافعية القائلين بالكراهة: (وهذه كراهة تنزيه إذا لم يكن معها محدث آخر، فإن ضم إليها أمر آخر من البدع المحرمة كما هو الغالب منها في العادة كان ذلك حراماً من قبائح المحرمات فإنه محدث، وثبت في الحديث الصحيح:" إن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة") ().
¥