الثالث: أنك عرفت أن (الاختلاف في الكتاب) شيء والاختلاف في الأشياء الأخرى هو أمر غيره، فلو تذكرت أن (المختلفين في الكتاب) مجموعة ةالمؤمنين مجموعة أخرى فالمجموعة الأولى مختلفة فيه لأنها تعلم النظام الداخلي للكتاب فلماذا تختلف فيه؟ وهي لا تجادل المجموعة الأولى ولا تناقشهم قط
? فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهراً ولا تستفت فيهم منهم أحداً? (الكهف 22)، لأنها تعلم أن الأخرى منكرة للنظام عن معرفة وقصد.
إن للمجوعة الأولى قواعدها وللأخرى قواعدها وهما على طرفي نقيض، فلا شيء مشترك بينهما لحدوث محاورة من أي نوع ولذلك بالمجموعة الثانية لا تخالف ولا تختلف ... بل صامتة محتسبة منتظرة
? يوم يأتي تأويله? (الاعراف 53). أن المنهج اللفظي يحاور الذين انطلت عليهم أساليب المجموعة الأولى وهم في الحقيقة يجب أن يكونوا مع المجموعة الأولى نفسها. وهو لذلك يهدم أسس بنائها كلّه بما يمكنه له النظام القرآني من قدرات غير محدودة.
التناقض بين تعريف التناقض وتطبيقاته
إن الذين تصدّوا للدفاع عن القرآن ضد المتهمين له بالتناقض لم يتمكنوا من فهم معطيات موضوع التناقض، لذلك وقعوا في شباكه بينما كانوا يحاولون التخلص منه، وسبب ذلك كما أوضحنا لك انهم شاركوا الخصم في نظرته للقرآن المنكرة لوجود النظام القرآني فكيف يمكنهم الخلاص من التناقض وهم يشاركون الخصم بقواعده التي أخضعوا لها القرآن؟
فذلك أول تناقض وقعوا به، وأما الخطوة الثانية فهي تعريف التناقض حيث قالوا: إن موضوع التناقض هو التضاد بين النفي والإثبات بحيث أن أحد الكلامين يثبت شيئا والآخر ينفيه.
وبناءا على التعريف فإنهم لايحسبون أن الوجوه المتعددة للتفسير والمتضادة مع بعضها البعض من التناقض.
بينما الحقيقة أن تلك الوجوه المتعددة إنما هي للخلاص من التناقض بإثبات تناقض مع آية أخرى، وقليل جدا من الوجوه ما يسلم من هذا القدح وهو ما روى عمن (آتيناهم الكتاب) بيد أن هذا حسبوه من الوجوه الغريبة فإما يترك أو يؤتى به آخر الوجوه، وهذا ما يفعله (متبَّعهم) حيث يجد حرجا ظاهراًَ في إدخاله ضمن التفسير فيحاول جاهدا تأويل النص المفسر للقرآن بتفسير من عنده يطابق قواعدهم فكأنه لم يكفه القرآن موضوعا للرأي فهاجم ألسنة أيضا وجعلها مسرحا لآرائه.
أما غير هؤلاء فيأتي بالنص إن جاء به لإثبات غرابته وغرابة قائلة لا غير. وقد فعلوا ذلك مع سوق عدد من الوجوه التي لم يقل بها سوى الذين? أوتوا الكتاب? بالمعنى الذي رأيته في النظام القرآني، فالوجوه المتعددة والمتضاربة هي من الاختلاف ومعلوم أن كل اختلاف تناقض لكنهم لم يحسبوا الوجوه من التناقض لأمر واضح وهو عدم إعطاء الخصم إشارة إلى الوجوه المتعددة من التناقض فيضطرهم ذلك إلى ترك التفسير بالمرة. لاستحالة التفسير إلا بوجوه متعددة خلاصا من التناقضات.
ومعنى هذا الكلام أن نظام القرآن يوقع المفسر في التناقض حتى وأن كان من أهل المحبة للقرآن والرغبة في الدفاع عنه مادام يتحرك بقواعد مخالفة للنظام القرآني فالنظام لا يقبل خطئا لا من الصديق ولا من العدو
وهنا نسوق مثالين:
الاول: قوله تعالى? كذلك نسلكه في قلوب المجرمين? (الحجر 12)
قالوا نسلك القرآن أو نسلك الشرك أو نسلك العصيان والاستهزاء.
فهذه الأوجه الثلاثة تناقض بناء على التعريف نفسه، علاوة على كونها من الاختلاف قطعا، لأن القرآن والشرك أو القرآن والعصيان متضادان وليسا (مترادفان)، ولو مع التسليم بالمترادفات فإثبات أحدهما نفي للآخر فهو إذن تناقض.
والثاني: قوله تعالى: ? فقال إني سقيم? (الصافات89) قالوا سقيم بمعنى محموم أو مريض أو إني سأمرض مما عرفت من نجمي الذي في السماء. أو لم يكن إبراهيم عليه السلام كذلك ولكنه أراد الفرار منهم، ثم تناقشوا في (جواز كذب الأنبياء لما فيه مصلحة الدين) مما يعد مخزية من مخازي التفسير لو أردنا التطويل، ولو كان ميكفلي هو المملي عليهم لما جاء بعبارة احسن تمثيل جوهر عقيدته، فهذا اللفظ (سقيم) له سبعة اوجه عند إحصاء الجميع وإثبات بعضها نفي للآخر، بل نفي لحقائق دينية ثابتة فهو تناقض. ولا تتسع المجلدات لو أردنا الإتيان بشواهد أخرى، فكل تركيب قرآني وكل لفظ له وجوه التفسير ورد بعضهم على بعض هو تناقض انتبه له الخصوم أم لم ينتبهوا وشاء (العلماء) أم أبوا.
قال المستشرق (كولد تسيهر):
(من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهباً عقيدياً موحداً ومتجانساً وخالياً من التناقضات).
والعلماء المعاصرون شتموه على جرأته على القرآن، لكنه لم يقل (من المحال أن نستخلص ... ) ليشتموه بل قال من العسير! وأي أمرؤ يقرأ تفاسير المسلمين قبل هذا المنهج يحق له القول من (المحال .... ) إذا كان لا يدرك النظام القرآني.
فإذا كان المستشرق كاذبا فأين هو المذهب العقيدي الموحد المتجانس وكيف يشتموه على أمر هم فاعلوه وجاعلوه بالصورة التي هو عليها؟ "
¥