ويقولون في المثال الثاني: إن الحسنة والسيئة كلتاهما يتقدير الله عز وجل، لكنّ الحسنةَ سببُها التفضل من الله تعالى على عباه، أما السيئةَ ففعل العبد كما قال تعالى: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، فإضافة السيئة إلى العبد من إضافة الشيء إلى سببه، لا من إضافته إلى مقدِّره، أما إضافة الحسنة والسيئة إلى الله تعالى فمن باب إضافة الشيء إلى مقدِّره. وبهذا يزول ما يوهِم الاختلاف بين الآيتين لانفكاك الجهة.
ويقولون في المثال الثالث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شك فيما أنزل إليه، بل هو أعلم الناس به وأقواهم يقيناً، كما قال الله تعالى في نفس السورة: (قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله)، المعنى: إن كنتم في شك منه فأنا على يقين منه، ولهذا لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، بل أكفر بهم وأعبد الله.
ولا يلزم من قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) أن يكون الشك جائزاً على الرسول صلى الله عليه وسلم أو واقعاً منه. ألا ترى قوله تعالى: (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، هل يلزم منه أن يكون الولد جائزاً على الله تعالى أو حاصلا؟! كلا، فهذا لم يكن حاصلاً ولا جائزاً على الله تعالى، قال الله تعالى: (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً. إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً).
ولا يلزم من قوله تعالى (الحق من ربك فلا تكونن من الممترين) أن يكون الامتراء واقعاً من الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن النهي عن الشيء قد يوجه إلى من لم يقع منه، ألا ترى قوله تعالى: (ولا يصدنُّك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك وادع إلى ربك ولا تكونن من المشركين)، ومن المعلوم أنهم لم يصدوا النبي صلى الله عليه وسلم عن آيات الله، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شرك.
والغرض من توجيه النهي إلى من لا يقع منه التنديد بمن وقع منهم والتحذير من منهاجهم، وبهذا يزول الاشتباه وظنُّ ما لا يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أنواع التشابه في القرآن:
التشابه الواقع في القرآن نوعان:
أحدهما: حقيقي، وهو ما لا يمكن أن يعلمه البشر، كحقائق صفات الله عز وجل؛ فإننا وإن كنا نعلم معاني هذه الصفات، لكننا لا ندرك حقائقها وكيفيتها، لقوله تعالى: (ولا يحيطون به علماً) وقولِه تعالى: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير).
ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وهذا النوع لا يُسأَل عن استكشافه لتعذر الوصول إليه.
النوع الثاني: نسبي، وهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيكون معلوماً للراسخين في العلم دون غيرهم.
وهذا النوع يُسأَل عن استكشافه وبيانه لإمكان الوصول إليه؛ إذ لا يوجد في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، قال الله تعالى: (هذا بيان للناس وهدىً وموعظةً للمتقين)، وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء)، وقال: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)، وقال: (ثم إن علينا بيانه)، وقال: (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً).
وأمثلة هذا النوع كثيرة.
منها قوله تعالى: (ليس كمثله شيء)، حيث اشتبه على أهل التعطيل، ففهموا منه انتفاءَ الصفات عن الله تعالى، وادّعَوْا أن ثبوتها يستلزم المماثلة، وأعرضوا عن الآيات الكثيرة الدالة على ثبوت الصفات له وأن إثبات أصل المعنى لا يستلزم المماثلة.
ومنها قوله تعالى (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً)، حيث اشبته على الوعيدية، ففهموا منه أن قاتل المؤمن عمداً مخلد في النار، وطردوا ذلك في جميع أصحاب الكبائر، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن كل ذنب دون الشرك فهو تحت مشيئة الله تعالى.
¥