ومنها قوله تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير)، حيث اشتبه على الجبرية، ففهموا منه أن العبد مجبور على عمله، وادّعَوْا أنه ليس له إرادة ولا قدرة عليه، وأعرضوا عن الآيات الدالة على أن للعبد إرادةً وقدرةً وأن فعل العبد نوعان: اختياري وغير اختياري.
والراسخون في العلم - أصحابُ العقول - يعرفون كيف يُخرِّجون هذه الآياتِ المتشابهةَ إلى معنىً يتلاءم مع الآيات الأخرى، فيبقى القرآن كلُّه محكماً لا اشتباه فيه.
الحكمة في تنوع القرآن إلى محكم ومتشابه:
لو كان القرآن كلُّه محكماً لفاتت الحكمة من الاختبار به تصديقاً وعملاً لظهور معناه، وعدم المجال لتحريفه والتمسكِ بالمتشابه ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله. ولو كان كله متشابهاً لفات كونه بياناً وهدىً للناس، ولما أمكن العمل به وبناءُ العقيدة السليمة عليه. ولكن الله تعالى بحكمته جعل منه آياتٍ محكماتٍ يرجع إليها عند التشابه، وأخَرَ متشابهاتٍ امتحاناً للعبد، ليتبين صادق الإيمان ممن في قلبه زيغ.
فإنّ صادق الإيمان يعلم أن القرآن كلَّه من عند الله تعالى، وما كان من عند الله فهو حق ولا يمكن أن يكون فيه باطل أو تناقض، لقوله تعالى: (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)، وقولِه تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً).
وأما من في قلبه زيغ فيتخذ من المتشابه سبيلاً إلى تحريف المحكم واتباع الهوى في التشكيك في الأخبار والاستكبار عن الأحكام، ولهذا تجد كثيراً من المنحرفين في العقائد والأعمال يحتجون على انحرافهم بهذه الآيات المتشابهة.
موهم التعارض في القرآن:
التعارض في القرآن أن تتقابل آيتان، بحيث يمنع مدلول إحداهما مدلولَ الأخرى، مثل أن تكون إحداهما مثبتة لشيء والأخرى نافيةً فيه.
ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولهما خبري، لأنه يلزم كون إحداهما كذباً، وهو مستحيل في أخبار الله تعالى، قال الله تعالى: (ومن أصدق من الله حديثاً)، (ومن أصدق من الله قيلاً).
ولا يمكن أن يقع التعارض بين آيتين مدلولُهما حكمي، لأن الأخيرة منهما ناسخة للأولى، قال الله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)، وإذا ثبت النسخ كان حكم الأولى غيرَ قائم ولا معارضاً للأخيرة.
وإذا رأيت ما يوهم التعارض من ذلك فحاول الجمع بينهما، فإن لم يتبين لك وجب عليك التوقف وتكلَ الأمر إلى عالمه.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أمثلة كثيرة لما يوهم التعارض، بينوا الجمع في ذلك. ومن أجمع ما رأيت في هذا الموضوع كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب) للشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى.
فمن أمثلة ذلك قوله تعالى في القرآن: (هدىً للمتقين) وقوله فيه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس)، فجعل هداية القرآن في الآية الأولى خاصة بالمتقين وفي الثانية عامةً للناس. والجمع بينهما أن الهدايةَ في الأولى هدايةُ التوفيق والانتفاع والهدايةَ في الثانية هدايةُ التِّبيان والإرشاد.
ونظير هاتين الآيتين، قوله تعالى في الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء) وقوله فيه: (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم). فالأولى هداية التوفيق والثانية هداية التبيين.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) وقوله: (وما من إله إلا الله) وقوله: (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذَّبين) وقوله: (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب)، ففي الآيتين الأوليين نفي الألوهية عما سوى الله تعالى وفي الأخريين إثبات الألوهية لغيره. والجمع بين ذلك أن الألوهية الخاصةَ بالله عز وجل هي الألوهية الحق، وأن المثبتة لغيره هي الألوهية الباطلة، لقوله تعالى: (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير).
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء) وقوله: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً)، ففي الآية الأولى نفيُ أن يأمر الله تعالى بالفحشاء، وظاهر الثانية أن الله تعالى يأمر بما هو فسق. والجمع بينهما أن الأمر في الآية الأولى هو الأمر الشرعي، والله تعالى لا يأمر شرعاً بالفحشاء لقوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والأحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)، والأمر في الآية الثانية هو الأمر الكوني، والله تعالى يأمر كوناً بما شاء حسب ما تقتضيه حكمته لقوله تعالى: (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون).
ومن رام زيادة أمثلة فليرجع إلى كتاب الشيخ الشنقيطي المشارِ إليه آنفاً.
انتهى، والله الهادي والموفق. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
¥