وقبل أن نبحث عن دلالة هذه الأعداد في السورة، سنحاول أن نكشف عن الحكمة من الوسطيّة المطلقة التي تحلّت بها السورة دون غيرها من السور، والتي نجد لها إشارة في ثلاث أحاديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، والمتعلّقة بفضلها.
فقد أخرج الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من حفظ الآيات العشر الأوائل من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال ".
وروى الإمام أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال أيضًا: " من قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة الكهف عُصم من فتنة الدجال ".
وروى الإمام الحاكم وصحّحه في مستدركه على الصحيحين والإمام البيهقي في السنن، عن أبي سعيد رضي الله عنهم جميعًا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين ".
فما هو السرّ الكامن في سورة الكهف، والذي لأجله عيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم برأسها وبذيلها وبذاتها من بين كل سور القرآن الكريم؟ ولماذا خصّها صلى الله عليه وسلم كمنجىً ومُعْتَصَمٍ من فتنة الدجال؟
نقول، والله تعالى أعلم، إن سورة الكهف قد تفرّدت بقصص عجيبة لم تتكرّر في أي موضع آخر من سور القرآن الكريم، وهي: قصّة أصحاب الكهف، وقصّة نبي الله موسى مع الخضر عليهما السلام، وقصّة الملك فاتح الآفاق ذي القرنين.
فهي قصص يتيمة وردت لمرة واحدة في كل القرآن. وليس بسط هذه القصص من مقصودنا في هذا البحث، ولكنّا نريد أن نكشف بعون الله تعالى عن شيء من هذا السرّ، الذي لأجله خصّ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه السورة دون غيرها من السور بهذه الميزات، والتي نراها مرتبطة بموقع السورة من جهة، وبالتحام آياتها وكلماتها من جهة أخرى.
فمن تأمّل هذه السورة وقرأها بعين اليقين، وجد أن سياقها واحد، وأن موضوعاتها على ما يبدو من اختلاف ظاهر بينها إنما تدور على محور واحد، هو محور الإعتقاد والعقيدة، وتصحيح القيم والمعايير والموازين وفق قيم هذه العقيدة.
ثم إن القصص الواردة فيها تحدّثت عن كثير من العطايا الربانية التي يؤتيها الله من يشاء من عباده، نذكر منها: عطاء الإيمان متمثّلاً في قصة فتية الكهف الذين تحدّوا الجاهلية جمعاء، وخرجوا عليها غير آسفين على ما يفوتون ولا آبهين بما يلاقون، ثم آووا إلى الكهف، " فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ".
ومنها عطاء العلوم والفتوح الغيبية متمثّلاً في قصة نبي الله موسى عليه السلام وفتاه مع الخضر، الذي آتاه الله من العلوم التي لا تُحصّل بفكر ولا بإعمال نظر، وإنما مصدرها روح قدسيّة ونفس زكيّة وصلت نفسها بحبل الله تعالى، " فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ".
ومنها أيضًا عطاء القوة المادية متمثّلاً في قصة ذي القرنين، الذي آتاه الله تعالى من قوة مادية استظهر بها لنصرة المستضعفين وحرب العالين المفسدين في الأرض، "إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ".
ثم إن هذه المعاني لم ترد مجرّدة، بل إن أوجه المناسبة الكامنة بينها كثيرة، والعلاقات الرابطة بينها لهي من الخوارق التي توحي إلى دلالة مباشرة على ما ورد في الأحاديث التي ذكرناها آنفًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكما أن هذه السورة الجليلة تفرّدت دون غيرها من السور بإيراد هذه القصص العجيبة، فهي كذلك تفرّدت أيضاً من دون سائر سور القرآن بجملة خصائص ومجموعة مزايا، على رأسها ما يشبه أن يكون كرامة قرآنية عجيبة تدلّ على عظمتها. كيف؟
¥